كانت ولا تزال الحرب هى الخيار الأخير، وكانت جملة «إذن فلتكن حرباً» تقال عقب فشل المفاوضات والطرق السلمية فى التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتنازعة، تعبير سينمائى كان له وقع السحر فى أذاننا، حين كنا صغارا نشاهد كلاسيكيات السينما العالمية وأفلام الحروب، كانت كفيلة باستنفارنا وتأهبنا لمشاهدة ممتعة ومثيرة لمشاهد حربية «أكشن» يتماس مع الواقع لكنه ليس منه فى شيء.
فى معارك وحروب السينما المهزوم لا يقدم شهداء أو يخسر أرضا، خسائر معركته لا تتعدى تكلفة إنتاجية مدروسة جيداً ومقدرة كماً وكيفاً، كذلك المنتصر لا يكسب أرضاً أو يرفع علماً، هى مشاهد تمثيلية توثق تاريخاً حربياً لمعارك وحروب حقيقية، لكنها أبداً لم تقدم واقع أو صورة حقيقية لنشوة المنتصر أو خزى المنهزم.
الحرب بمعناها التقليدى لم تعد مرغوباً فيها، وأغلب من خاضوها – إن لم يكن جميعهم – خاضوها رغما عنهم مكرهين على تحمل خسائرها وأوجاعها، وكم هى موجعة ومؤلمة للطرفين مهزوماً ومنتصراً، والتاريخ وشهادات قادة الحروب ومذكراتهم توثق فى كثير منها لحظات الندم على خوض الحرب أو جولات منها، وراجعوا مذكرات مونتجمرى وروميل وشهادات قادة عسكريين أخرين عن مذابح الحربين العالميتين وما خلفته من ضحايا.
كارثة إنسانية
الحرب العالمية الثانية وحدها درس كفيل لكل قادتها وللعالم أيضاً حاضراً ومستقبلاً، 80 عاماً تقريباً مرت على أكبر كارثة إنسانية ومذبحة بشرية فى التاريخ، 60 مليوناً ضحية لهذه الحرب الملعونة، ما يعادل 2.5٪ من سكان العالم فى هذا الوقت، منها 17 مليوناً عسكرياً إلى جانب 5 ملايين أسير ماتوا فى الأسر، وملايين من المدنيين ماتوا برداً جراء شتاء أوروبا القارص وآخرون ماتوا ضحايا لمجاعات وأوبئة وأمراض، وملايين من الأبرياء فى مستعمرات أفريقيا لقوا حتفهم فى معارك لا ناقة لهم فيهم ولا جمل، هكذا هى الحرب لا تبقى ولا تذر.
فى العصر الحديث تنوعت أشكال الحروب، لا يسع المجال لحصرها، المتعارف عليه منها الحرب الشاملة والمحدودة والحروب الأهلية والطائفية وقد تكون حرباً بالوكالة وما أكثرها فى الوقت الحالى خاصة فى أوروبا ومنطقتنا، الكل يبحث عن مكاسب وإنتصارات مجانية دون خسائر مادية أو بشرية، انتصارات قد تكسبك قوة أو نفوذاً أو مالاً وقد تكسبك أرضاً لكنها لن تمنحك سيادة، السيادة دائما على الأرض تكون لشعوبها.
حرب الإبادة
ما يحدث فى منطقتنا يصعب تصنيفه.. المنطقة تكاد تكون مسرحاً لحرب عالمية ثالثة تراها حرب تقليدية وشاهده حرب الإبادة التى تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين، ويمكن إدراجها تحت مسميات أخرى للحرب التى تغيب أطرافها عن المشهد ولكنهم حاضرون فى التأثير وفى القرارات وعلى الأرض، تلمس ذلك فى قرارات المنظمات الدولية الأخيرة أو فى صراعات وتداخلات قوى إقليمية ودولية تحاول فرض نفوذها على المنطقة.
بعيداً عن هذا كله، على الأرض معارك أخري، أدواتها السياسة وذخيرتها المال وساحتها المجتمع الدولى بأقطابه المنحازة ومنظماته العاجزة وآلياتها المعطوبة، مجبراً أطرافها على خوضها أيضا، ولا سبيل إلى غيرها من المعارك إلا بإستنزاف أو فشل وسائلها عن تحقيق أياً من أهدافها.
قضية القضايا
الأزمة فى غزة جاوزت شهرها الثامن، مصر طرف أصيل فى الأزمة شئنا أم أبينا، القضية الفلسطينية قضية القضايا بالنسبة لمصر، لم ولن تحيد عن ثوابتها تجاهها أهمها أنه لا تهجير ولا تصفية ومع الفلسطينيين حتى إقامة دولتهم المستقلة على حدود 4 يونيو 1967، إلى جانب ما أستجد عقب التطورات الأخيرة وضرب اسرائيل لرفح الفلسطينية والسيطرة على الجانب الفلسطينى من معبر رفح والذى ترفضه مصر بشكل قاطع وحاسم.
لم تتوقف مصر منذ اشتعال الأزمة عن تقديم يد العون والمساعدة للأشقاء وهو ما يترجم على الأرض فى شكل قوافل إغاثة ومساعدات لإحتواء حدة الأزمة الإنسانية فى القطاع، ولم تكف أيضا عن التواصل مع كافة الأطراف الدولية الفاعلة فى الأزمة لوقف إطلاق النار وتحقيق هدنة ممتدة لإلتقاط الأنفاس وإعطاء فرصة لمسار تفاوضى يوقف ألة القتل الصهيونية التى تخوض حرب إبادة ضد الفلسطينيين.
القرار المصري
مصر تواجه ضغوطاً دولية وإقليمية كبيرة، محاولات كثيرة لاستدراجها إلى أتون حرب – هى مستعدة لها – لكنها فى غير وقتها، الرؤية المصرية أعمق وأشمل من أن تستدرج، القرار المصرى أكبر من أن ينساق لأرضاء شهوة الحرب لدى المناضلين خلف الشاشات وعبر وسائل التواصل على إختلاف أهدافهم ونواياهم وعلى قدر خبراتهم.
مصائر الأوطان ليست عرضة لمراهقات ومغامرات مدعى النضال ومحتكرى الوطنية أو المتلاعبين بعواطف الشعوب، وخوض الحروب يبنى على تقدير موقف لكل قوى الدولة الشاملة ودراسة قرار الحرب وتوقيته وآليات تنفيذه وأبعاده وتبعاته حاضراً ومستقبلاً.
وقرارات الحروب لا تستجدى يا سادة، قرارات الحروب أمر واقع يفرض على الأوطان لرد أى إعتداء يمثل تهديدا للسيادة ماديا ومعنويا، ومؤسسات الدولة قادرة على تقدير الموقف وقيادة الدولة مؤتمنة على هذا الشعب ومقدراته والأكثر إدراكا لما يلزم أن يكون وقادرة على اتخاذ القرار المناسب وفى توقيته الأنسب.
وضع التأهب
قيادة مصر هى الأكثر وعياً بما يحاك وما يدبر بليل للمنطقة وعليه فهى تدرك أنه لابد أن تكون أذكى من عدونا وداعميه، وأن نبقى فى وضع المتأهب وليس المهاجم، والقوات المسلحة منذ بدء الأزمة وهى فى حالة تأهب كاملة وفقا لتقدير موقف مدروس جيدا من كافة الأبعاد والاتجاهات.
وحالة التأهب مصطلح متعارف عليه عسكرياً وإستراتيجياً أنه أداة من أدوات الردع التى قد تحسم قضية أو تنهى نزاعاً، ولنا فى الحرب الباردة المثل والعبرة، ومن ينسى المقولة الاشهر «احتمال الضربة الثانية يقضى على احتمال الضربة الأولي» وفى أقوال أخرى «أن قوة الرد قد تقضى على نية الهجوم».
هل سنحارب؟
وأخيراً وليس آخراً نأتى إلى السؤال الأكثر تداولاً الآن على كل الألسنة من النخبة ومن العامة وهو.. هل سنحارب؟ الإجابة بسؤال أيضا ولماذا نحارب؟ هل ما يحدث فى رفح الفلسطينية يمثل خرقاً لبنود الملحق الأمنى لاتفاقية السلام وهل يستدعى قرارا للحرب؟.. قطعا لا.. فقد يعد خرقاً يتماس مع محددات الأمن القومى المصري، ولذلك الخرق آليات للتعامل حددتها بنود أخرى ومراقبة دولية للحدود تراقب أى خرق لبنود الاتفاقية بملاحقها من كلا الطرفين ولا ننسى مواجهات الحرب على الإرهاب والعملية الشاملة فى سيناء.
خرق بند من بنود الاتفاقية لا يعنى إعلان حرب سواء من طرفنا أو من طرفهم كلها أمور تبنى على تقدير موقف من كلا الطرفين طالما لا يمس السيادة، وما يحدث على مختلف الاتجاهات الإستراتيجية لمصر غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً قد يراه البعض تهديداً للأمن القومى المصرى ولكنه لا يمثل خطراً ولا يمس السيادة المصرية على أرضها ومقدراتها فى شيء.
كلنا على يقين أن القوات المسلحة متأهبة وقادرة بقوتها الرشيدة على صون وحماية أمننا القومى وسيادة هذا الوطن على كامل أرضه، لتبقى درعا يصد أى هجوم وسيفاً يبتر كل مترصد.
من يدفع الثمن؟
وتبقى كلمات الشاعر الفلسطينى محمود درويش رسالة لمن يعتبر.. يقول درويش:
ستنتهى الحرب، ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل.
لا أعلم من باع الوطن، ولكننى رأيت من دفع الثمن.