ونواصل الكتابة عن ذكريات الانتصار.. عن حرب أكتوبر المجيدة التى تناولنا فيها دور الأبطال من القادة العظام فى هذه المرحلة فى كل المجالات وعلى رأسهم الهبة الإلهية لمصر أنور السادات.. وتحدثنا عن الأبطال.. الأبطال الذين عبروا القناة واقتحموا دفاعات العدو لاستعادة أرض سيناء الغالية.. ولكن المعركة لم تكن فى الجبهة فقط.. المعركة لم تتعلق باطلاق الرصاص ودوى القنابل.. المعركة كانت أيضا نفسية ومعنوية لاستعادة الثقة فى قدراتنا وفى أننا قد عبرنا وأننا قد حققنا الانتصار ومحونا آثار الهزيمة.. وهنا كان دور الفن.. كان عمالقة مصر فى الغناء والتأليف والتلحين جنودًا لهم أدوارًا لا يمكن اغفالها أو نسيانها.. كانوا يحلقون بنا فى السماء بأحاسيس من المجد والفخار كانوا يعزفون سيفونية رائعة تمنينا ألا يكون لها نهاية أبدًا.. كانوا أصواتًا ستظل عالقة فى أذهاننا لأنها كانت أجراسًا تدق معلنة النهاية للكابوس والبداية لفرحة الانتصار.
وإذا كنا فى أكتوبر نستعيد الذكريات فإن هؤلاء القمم الخالدة يستحقون أن يظلوا دائمًا فى مقدمة من ارتبطوا بالنصر الكبير.. فهم من زف إلينا أخبار الانتصار ومع أغنياتهم أحسسنا بالاطمئنان.
ونتذكرهم وعلى رأسهم ابن مصر عبقرى التلحين بليغ حمدى الذى قضى أيامًا فى الاستديو لا يغادره وكان ملحنًا لمعظم أغانى العبور والانتصار.. ومعه النجوم الكبار.. عبدالحليم حافظ وشادية ووردة وفايدة كامل وأم كلثوم وعبدالوهاب ومحرم فؤاد وغيرهم من الذين كان لهم دور وتأثير ومكانة.
ونبدأ الحكاية من بعد نكسة 67 وأول محاولة لرفع الروح المعنوية والتأكيد على مواصلة المقاومة وعبدالحليم حافظ الذى غنانا «عدى النهار».. «عدى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر، وعشان نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر.. وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها، جانا نهار مقدرش يدفع مهرها».
وجاءت أم كلثوم لتردد.. «إنا فدائيون نفنى ولا نهون إنا لمنتصرون».
وانضم محمد عبدالوهاب بـ»حى على الفلاح».. وفيها يقول»طول ما أملى معايا معايا.. فى ايديا سلاح.. هفضل أجاهد وأمشى وأمشى من كفاح لكفاح، وطول ما ايديا فى ايدك.. أقوم واهتف وأقول.. حي.. حى على الفلاح».
وعاد عبدالحليم حافظ ليؤكد ويقسم على الانتصار ويردد.. أحلف بسماها وترابها أحلف بدروبها وأبوابها، احلف بالقمح وبالمصنع، احلف بالمدنا وبالمدفع بأولادى بأيامى الجاية، ما تغيب الشمس العربية طول مانا عايش فوق الدنيا».
ولم تتوقف أم كلثوم عن المشاركة وغنت «حق بلادك».. «قوم بإيمان وبروح وضمير دوس على كل الصعب وسير، حق بلادك وحده عليك، عايز منك سعى كتير، دوس على الصعب وسير».
> > >
وكانت أم كلثوم على حق.. فقد دوسنا على كل الصعب وحققنا الانتصار.. الانتصار الذى تحقق بأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. الانتصار الذى تحقق بفضل العمل والتخطيط الجيد.. الانتصار الذى تحقق بفضل الاهتمام بالفرد الذى هو أساس قوة الوطن.. الانتصار الذى تحقق لأننا خضنا المعركة تحت راية الحق.. بالله أكبر وبسم الله.
وبسم الله.. كانت أول أغنية رددتها المجموعة تعلن الانتصار.. «بسم الله.. والله أكبر بسم الله.. بسم الله أذن وكبر بسم الله».
وأتت وردة الجزائرية لتغنى وتسحر القلوب وتشدو بأغنية فيها من الرقة والعذوبة ما يؤكد الثقة على النجاح والعبور.. و»أنا على الربابة».. و»حلو بلادى السمرا بلادى الحرة بلادي، وأنا على الربابة بغني، ما أملكش غير انى اغنى وأقول.. تعيشى يا مصر.. وأنا على الربابة بغنى وأقول ما أملكش غير غنوة أمل للجنود.. أمل للنصر.. ليكى يا مصر ليكى يا مصر».
وكان الإعلان الرسمى للانتصار من خلال الأغنية الخالدة لعبدالحليم حافظ.. و»صباح الخير ياسينا.. فى الأولة قلنا جينا وجينا لك ولا تهنا ولا نسينا.. والثانية قلنا ولا رملاية فى رمالك عن القول والله ما سهينا والتالتة.. انتى حملى وأنا حمالك.. صباح الخير يا سينا.. وصباح الخير ياسينا رسيتى فى مراسينا.. تعالى فى حضننا الدافى ضمينا وبوسينا ياسينا».
واختتمت شادية مصر.. صوتها الذهبى عبر كل العصور.. اختتمت الملحمة الغنائية الوطنية بغناء يا حبيبتى يامصر.. يا بلادى يا أحلى البلاد يا بلادي.. فداكى أنا والولاد يا بلادي، بلادى يا حبيبتى يا مصر يامصر.. ما شفش الأمل فى عيون الولاد وصبايا البلد ولا شاف العمل سهران فى البلاد والعزم اتولد ولا شاف النيل فى أحضان الشجر ولا سمع مواويل فى ليالى القمر، أصله معداش على مصر، يا حبيبتى يا مصر ما شافش الرجال السمر الشداد فوق كل المحن ولا شاف العناد فى عيون الولاد وتحدى الزمن ولا شاف اصرار فى عيون البشر، بيقول أحرار ولازم ننتصر.. أصله معداش على مصر».
> > >
و»أصله معداش على مصر».. نقولها الآن لكل الذين لا يعرفون مصر.. لكل الذين لا يعرفون معدن الشعب المصرى الذى لا ينكسر.. نحن واجهنا النكسة بالسخرية من أنفسنا.. وتحوًّلت السخرية إلى كلمات تدعو للانتقام.. وتحوًّلت السخرية إلى انتفاضة من أجل محو آثار الهزيمة نحن شعب يبدع فى الأزمات.. وتتجلى عبقريته وقوته فى كيفية امتصاصها وتحويلها إلى مشروع للإنجاز.. نحن القوة فى صلابة جبهتنا الداخلية.. ونحن الانتصار فى وحدتنا وعمق انتمائنا للوطن.. نحن فى كل الأزمات على قلب رجل واحد.. ونحن عبرنا وانتصرنا لأن أملنا كان معنا.. ولأن أيدينا كانت متشابكة.. ولأننا خضنا الحرب بالعقيدة.. وبحي.. حي.. حى على الفلاح.. وهذه هى مصر.
> > >
وأخيرًا:
وتبدو مخيفة سرعة هذه الأيام وتجرى بنا دون أن نشعر، فيارب أعطنا خير هذا الزمان و أكفنا كل شر وأحسن خاتمتنا.
> > >
وكالحلم يهرب العمر ولا نستطيع الإمساك به، فعيب السنين أنها تصنع الذكريات، وعيب الذكريات أنها لا تعيد السنين.
> > >
ولا العقل ينسى الذكريات ولا القلب ينسى الشعور.
> > >
ولا أحد يحمل همك غير ظهرك، أما الباقون فيحبون معرفة قصتك فقط.