تتعرض الليبرالية لعملية تشويه على أيدى بعض المنتسبين إليها، تصل إلى درجة الخيانة، ومعظم هؤلاء الذين خانوا الفكرة الليبرالية شخصيات قشرية، بلا عمق، وليس لهم جذور، أو أصول، أو حتى فروع ليبرالية، وكانت كل علاقتهم بها أنهم سمعوا عنها، وربما جلسوا برهة من حياتهم تحت شجرتها فى بلاد الفرنجة. الليبرالية مفهوم عميق للحرية المسئولة، وليس المنفلتة من عقال المنطق، الحرية ليست حرية الحسيات فقط؛ وإنما أيضًا حرية الفكر السليم، والخيال الخصب، دون تقاطع صفرى مع من يختلفون معنا، أما اختزال الليبرالية فى حرية الجسد ونوازعه، واطلاق اللسان دون ضوابط، فهذا يمثل خيانة للفكرة التى روج لها عظماء ومخلصون.
أحمد لطفى السيد هو أبوالليبرالية المصرية، ومنظّرها وعميدها الحقيقى، آمن بها، وطبق مبادئها بشرف، ونزاهة، ووطنية، الليبرالية الناصعة غير الملوثة، الليبرالية الوطنية فى أسمى معانيها.. كان لدينا رجال بحق، يختلفون بشرف، ويتفقون بموضوعية.. تابعت بعض سلوكيات وتصريحات محسوبين على الفكر الليبرالى، فحزنت حزنًا شديدًا، وتذكرت أحمد لطفى السيد، وسرحت بخيالى: ماذا لو الرجل بيننا الآن؟ ماذا لو قرأ وسمع ما نسمعه ونقرؤه من أفواه تنتسب زورًا وبهتانًا إلى الليبرالية؟ هل الليبرالية مرادف للانفلات من عقال الأصول؟ هل الليبرالية تعنى حرية السباب، والهجوم اللا أخلاقى على الرموز والثوابت الوطنية؟ هل الليبرالية هى أن تكون مرتبطًا بالغرب الليبرالى، ومدعومًا منه، ومتحدثًا باسمه، ومنفذًا لتوجيهاته؟ هل الليبرالية تعنى أن تتطاول على القانون، وتستقوى بالخارج، وتستكبر على خلق الله؟ عندما كتب أبوالليبرالية المصرية وأستاذ الجيل أحمد لطفى السيد مقالاً تحت عنوان «عندما يخطئ العقلاء»، لم يكن يدرى أن قدحه لعقلاء الأمة، وعتابه عليهم لما ارتكبوه من أخطاء سيصل إلى جيلنا المنكوب بنخبه الزائفة، لم يكن لطفى السيد يعلم أن زمنًا سيأتى يختفى فيه العقلاء، ويندر أن يجد المرء شخصًا عاقلاً واعيًا مجردًا حكيمًا لا يعبد هواه، ولا يسير فى طريق الحماقة ليغرس بذور الفتنة لتنمو وتتكاثر فى محيط من الجهل والمرض، والأمية، والتخلف، لم يكن أبوالليبرالية يعلم أن ما كان يروجه من أفكار لحض الناس على التفكير وإعمال العقل، والخروج من سجون الهوى والتقليد، سيتحول إلى موجة متطرفة وحادة على الطرف الآخر من النهر يتهكم قادتها ودعاتها ومنظروها على الناس البسطاء بدعوى أنهم متخلفون، ورجعيون، ولا يفكرون، بيد أن بعض دعاة التنوير والتحديث والتجديد، وهم فى غمرة حماستهم، قد ارتكبوا الأخطاء نفسها التى يرتكبها المتطرفون والإرهابيون الذين كفروا الناس وقاتلوهم، وعاثوا فى الأرض فسادًا، فالهجوم على المتطرفين يجب ألا يذهب بالبعض إلى مناطق نائية عن جغرافية المعركة الحقيقية، فتسقط البوصلة من بين أياديهم، فيبدؤون بالهجوم على الدين ذاته وثوابته، فيدخلون فى معركة جديدة لا مبرر لها مع المجتمع بكل مكوناته، فيفقدون الظهير المساند لفكرة التجديد، وبذلك يخسرون كل معاركهم دون تمييز.. كما أقف دومًا عند ردود الفعل، فأجد حكمة مفقودة، وعقلاء غائبين، فالاختلاف يجب أن يُدار وفق أسس الود، وبين جنبات المنطق.. الجميع يخطئ فى ظل غيبة العقل، وسطوة الهوى، والخسارة ستكون من نصيب الجميع، دون استثناء.