فكرت وتأملت طويلا فى البحث عن البوابة التى يمكن أن ابدأ بها تقديم شخصيته وتملكتنى الحيرة هل ادخل من بوابته كرجل دولة ترأس الوزراء أو «النظارة» ام الجندى الذى حارب فى عدة مواقع منها منطقة «البلقان» وجزيرة كريت او اختياره لوزير حربيته الذى قام بثورة ضد الخديو توفيق.. ام الشاعر وبوابه الادب وهو الملقب بـ «فارس السيف والقلم».. أو الخطيب البارع المثقف باعتبار أنه خطيب الثورة العرابية مع رفيقه عبدالله النديم.. كثيرة مداخل الحديث عن الرجل الذى مهد ريادة الشعر لشوقى وحافظ وعشق شعراء المهجر وأصبح منهم فى أسيا وليس فى أمريكا اللاتينية.. فهو القائد العسكرى الذى دخل مناصبه الرفيعة من «البارون» للخديو إسماعيل.. وتعامل مع سعيد وواجه الخديو توفيق.
هو محمود سامى البارودى الذى سبق زمنه وزمانه وعاش أسير شعره فى «سرنديب» بجزيرة سيلان «سيرا لانكا» حاليًا.. قرابة 18 عاما.. فقد فيها بصره بعد ان فقد الخل والخليل.. كما احدث ثورة على الفساد والظلم والاستبداد فى عهد إسماعيل وما بعده.. ايضا قاد قوافل الشعر وتأثر به الفحول عزيز اباظة والأخطل الصغير وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت وصولا إلى كامل الشناوى وبشير التيجانى واحمد رامى وغيرهم.. ووجوده على الساحة كان ايذانا شعريا بتحرير الشعر من ابتذاله وانحساره فى المديح والتهانى، ليقدم البارودى التجديد الرصين فى الأدب العربى.. فقد نفى «قسرا» لكن لم يقف شعره وعاش هنا فى مصر رغم القائه لاجمل قصائده خارج الديار وحيدا فى جزيرة «سرنديب» الاسيوية.
عبر وهو العسكرى حامل القلم عن محيطه العربى بالاحاسيس الوطنية الخالصة وعبر عن انتمائه الشريف للوطن «مصر» رغم ان جذوره كانت شركسية.. لم ينس التاريخ وقتها او يقف على مقابر الاجداد بل تدبر الرؤى للمستقبل باهواء وطنية خالصة.. اناشيده الحربية التى دون بين رفقاء عرابى كانت تعزف لحنا وطنيا كثريا تتدلى على سرير مخملى.. وفى العواطف كدمع ينحدر من محب هجرته محبوبته.. فى شعره الحربى تسمع ذئيره كأسد ينادى من عرينه لرفقائه هبوا نحن امام «خطر».. ومع الهدوء يصدح مدحا لـ «عندليب» يفضى على حنجرة جبل محاطة بعناقيد عنب او ثمرة الرمان وبساتين الورد.. فتفرد بجمع الرصانة والدقة وعذوبة الكلمة التى تفاجئ المستمع.
كان بثقافته لـ «ياوران» بالبزة العسكرية يفاجئ من حوله بكلماته الشاعرية وابياته الوطنية كمن يعزف لحن جمال بلا موسيقى.. وكان بكلماته يرسم وحدث ولا حرج.. وينشد واقعا تعيشه مصر قبل الاحتلال الانجليزى بلمحة خيالية تنبض بوميض كلماته..وهذه حقيقة لايزال يذكرها فحول شعراء العربية والمستشرقون فقد حمل كلماته وقت ازماته بالروح العربية الخالدة.. ولما لا فهو فارس الثورة التى كان رئيس «النظار» فى زمانها.. والتى قادته إلى السجن والزنزانة وامامه السجان.. تلقى حكم الاعدام هادئا وهو الفارس الذى لم يعرف القيد، رئيس «النظارة»- الوزراء الذى كانت بيده مقاليد الأمور.. ووجد نفسه المحارب القديم الذى تنقل من القاهرة إلى ايتاى البارود إلى الصعيد إلى الاستانة ومع حياته غرس فى منطقة البلقان وخاصة فى كريت.. دون حياته كتاب اسرار مجلس الوزراء رئيس النظار حفيد عبدالله البارودى احد الكشافين التى كانت ايتاى تقع فى دائرته وجعل اسمها «شركس» ولد بين 7 إخوة بينهم ابنة واحدة.. استفاد من بيت العلم الذى احتضنه وهو ابن التاجر الذى جاب اسطنبول ودمشق وبغداد والذى استقر به الحال فى حى الازهر الشريف وفيه بدأ يتعلم العربية ليتقنها ويصبح واحداً من رموز ادبها..ربما زواج اخته الوحيدة من الامير «كتخدا» الانكشارى أو «الانكشارية» كما كانوا يطلقون عليهم فى عهد مشيخة عثمان بك وارتقت العائلة.. وفى عهد على بك الكبير الذى كان صديقاً لوالده اولوه حى القاهرة فيما تولى الابناء الاشراف على مناطق فى الصعيد شمال قنا ومازالت قرية نجع البارود على النيل التى تحتفل قنا بيومها القومى بمواجهتهم للاحتلال ومع على بك الكبير امتد إلى النوبة وفى جرجا وفى طما ومنفلوط ولعل انتشار اسماء البارودى فى الصعيد وازداد نفوذ الاسرة.
اقتفاء اثر محمود سامى البارودى نجده فى البداية بمنطقة باب الخلق.. وانخرط فى التعليم قبل دخول المدرسة الحربية ليرتقى ويكون اول وزير للحربية قبل تولى رئاسة الوزارة ليسلم الحربية «الجهادية» لعرابى.. انها عائلة امتد نفوذها وجد محمود سامى كان مملوكا ووالد محمود سامى البارودى كان ضابطا شركسياً ولد فى 6 أكتوبر 1839 وتم تعيينه فى بربر وتنقله بالسودان وكان هناك بينما كان الأمير فى السابعة من عمره.. ووسط حياة صعبة بعد وفاة والده الحقوه بالتعليم الاولى ومنها إلى الحربية ليتخرج فيها.. فى تجربة حياة بعد تخرجه فى الحربية ذهب إلى الاستانة ليختاره الخديو اسماعيل إلى حاشيته ويشارك فى حرب البلقان ليتدرج فى مساحة طويلة من المواقع والمناصب إلى ناظر «القاهرة» والاوقاف.. وفى مراكب الوظائف الخديوية لمع اسمه ليصل إلى الوزارة ثم مشاركة عرابى فى مواجهته للخديو إلى حكم قاس بالاعدام ثم خفف بالمنفى فى سرنديب ومنها استقر به الحال 18 عاما ليعود مريضا وفاقداً للبصـــر ويعـيش فى مصر 5 ســنوات بعد العــودة ثم توفى 15 ديسمبر عام 1904 بعد رحلةحياة بها محطات كثيرة بعضها كان فيه كأس المرارة من الوحدة والعزلة وفقدان الاهل والاحباب.
النشأة
تقول سطور النشأة كما سجلها المؤرخ العراقى نجدة فتحى صفوه ان محمود سامى البارودى ينتمى إلى اسرة شركسية سكنت مصر وهو ابن حسن بك حسنى مدير دنقلة وبربر فى عهد محمد على باشا ولد بالقاهرة عام 1839 توفى والده الذى كان يعمل فى السودان مديراً لمنطقتى بربرة ودنقلة فى عهد محمد على باشا..وشاء حظ الاسرة ان يتوفى الوالد بعيدا عن القاهرة وكان محمود اصغر اشقائه وهنا ألحقوه بمدارس التعليم لتعلم القراءة والحساب والمعارف وعند الثانية عشرة الحقوه بالمدرسة الحربية التى تخرج فيها وعمره 16 عاما 1855.. وبدى عليه ولعه باللغة العربية وفصاحة لسانه واتقانه النحو والصرف وسافر بعد تخرجه إلى الاستانة وهناك تعلم واجاد التركية والفارسية.
أول لقاء مع الخديو إسماعيل
فى اثناء زيارة الخديو اسماعيل إلى الاستانة انضم إلى معينه ياورا خاصـــة له وظل معــه 8 سنوات قبل ان يكون كبير الياوران ولى العهد الخديو توفيق ومن منصب إلى اخر كان يبلى بلاء حسنا وهذا ما دونته كتب التاريخ عن سيرته منذ ان كان ضابطا صغيرا.. فى عام 77 رقى إلى رتبة لواء وسافر فرنسا وانجلترا وتمرس فى فنون الحرب وشارك فى حرب البلقان.. كما كان ضمن الحملة المصرية المشاركة فى هذه الحرب مساندة للدولة العثمانية والحرب التركية- الروسية.
العودة إلى مصر بعد الحرب
مع عودته إلى مصر تولى عدداً من المناصب الادارية وتولى مديرية الشرقية ثم ناظراً للقاهرة قبل ان يتولى نظارة الاوقاف ونظارة الجهادية «الحربية» إلى ان وصل إلى ناظر الوزارة رئيسا وهى المرحلة التى اختار فيها احمد عرابى وزيرا للحربية المنصب الذى كان يشغله قبل توليه نظارة الدولة المصرية.. وكان قد تولى نظارة الحربية بدلا من عثمان بك رفقى ووقتها وشى به رياض باشا للخديو توفيق انه له توجهات شعبية فعزله.. وهو من تلاميذ المعجبين بجمال الدين الافغانى.. ومع تولى محمد شريف باشا الوزارة فى 14 سبتمبر 1881 عرض عليه الحربية ورفض لكن الخديو ضغط عليه فوافق.. وسقطت وزارة شريف باشا فى 5 فبراير 1882 فى الوقت الذى توجس الخديو من اهتزاز مركز عرشه مع اختيار البارودى لرفيقه عرابى وزيراً للحربية وقامت الثورة العرابية وتدخل المحتل البريطانى والفرنسى وتم استقالة الوزارة وابعاد زعمائها من الضباط.. واخفقت الثورة العربية.
النفى إلى سرنديب
ومع هزيمة عرابى بعد المواجهة ولم تحقق اهدافها ومطالب المحتجين ثم الحكم على عدد منهم بالاعدام وخفف بالنفى من بينهم زملاء عرابى وعبدالعال حلمى وعلى فهمى وطلبة عصمت ومحمود فهمى ويعقوب سامى ومحمود سامى البارودى إلى سيرلانكا حيث استقر بهم المقام فى سرنديب.
وتطول الرحلة وتموت زوجته وابنته ومرض البارودى وعندما اشتد عليه المرض طـوى 18 عاما عاد إلى مصر مريضا مكسورا فاقد البصر.. وعمره لم يتجاوز 65 عاما.. توفى بعد عودته بخمس سنوات من المنفى.. لتطوى صفحة مهمة فى تاريخ الدولة المصرية تعود إلى النصف الاخير فى القرن قبل الماضى فى عهد اسرة محمد على لرجل كان رئيسا لوزراء مصر فى 5 فبراير 1882 ووزير حربيته «الجهادية» احمد عرابى ليخرجوا من مصر بعد تجريدهم من رتبهم ومصادرة املاكهم.
عائلة البارودى
اختلف كثيرون حول جذور العائلة لكن اتفق بحسب المراجع انه ينتمى إلى اسرة عريقة من المماليك الشراكسة الذين جاءو إلى مصر فى القرن الـ 19 من بلاد ما وراء النهر وتحديدا جورجيا هربا من التتار واخذهم الملك العادل الايوبى حتى اصبحوا منخرطين فى اركان الدولة وظلوا طبقة مميزة ولهم الرتب العالية.
ويقول محمود مهنى البارودى فى مقال بالجمهورية فى 9 يوليو 86 انه واحد من 7 ابناء منهم ابنة واحدة والدهم محمد البارودى الشركسى المولد المصرى الاقامة وان الوالى على بك الكبير كان صديقا لوالدهم ووصاهم بجمع المال والضرائب فى صعيد مصر.. وان الابن الاكبر تولى اسنا وان احدى قرى قنا سمى بـ«البارود» نسبة إلى الحاكم.. وأن هذا الابن عاش حياته فى بلاد النوبة.. وأحد الأبناء نزل فى جرجا وامتد نفوذه إلى طما.. فيما ابن اخر عاش فى منفلوط، حيث بساتين الرمان وانتقل من منفلوط وإلى بلدة أبوخليل شمال غرب منفلوط.. كما عاش أحد أبناء البارودى فى المنيا واخر عاش فى بلاد الشام ومات هناك اما الابن السادس وهو اصغرهم فقد عاش فى القاهرة وكان قريبًا من الوالى على بك الكبير واشرف على مناطق ابوحمص وايتاى البارود وشبراخيت وامتد إلى دمنهور وظل كذلك حتى تولى الحكم محمد بك ابوالدهب وبداية حكم مراد بك وهو جد محمود سامى البارودى وتفرعت هذه العائلة لتنتشر فى مناطق كثيرة فى فرشوط وبنى مزار وشبين القناطر والبحيرة والاسكندرية وبلاد الشام.
والمهم هنا ان البارودى من ابوين من اصل شركسى من سلالة المقام السيفى نوروز الانابكى وكان اجداده ملتزمى ايتاى البارود وجامعى الضرائب.
من أشعار البارودى
فى الوداع قبل النفى إلى سرنديب:
لما وقفنا للوداع واسبلت
مدامعنا فوق الثرائب كالمزن
اهبت بصبرى ان يعود فعزتى
وناديت حلمى ان يثوب فلم يغن
وما كانت جربت النوى قبل هذه
فلما دهتنى كدت اقضى من الحزن
وفى وفاة ابنته سميرة:
تأوب طيف من سميرة زائر
وما الطيف الا ما تريه الخواطر
طوى سدفة الظلماء والليل ضارب
بأروقة والنجم بالافق حائر
وفى رثاء زوجته:
يا دهر فيم فجعتنى بحليلة
كانت خلاصة عدتى وعتادى
إن كنت لم ترحم ضناى لبعدها
افلا رحمت من الاسى اولادى
عفو عباس حلمى الثانى
وقد عفا الخديو عباس حلمى الثانى عنه واعاد له حقوقه وعاد إلى مصر فى سبتمبر 1900 ليواصل حياته فى القاهرة خمس سنوات قضاها بين الشيخوخة والمرض.
قالوا عنه:
> فاروق جويدة
يعتبر دعامة من دعامات الشعر العربى الحديث.. مهد الطريق لاجيال كثيرة جاءت بعده واستطاع ان يعيد للقصيدة العربية نبضها وموسيقاها وعمقها القديم ومهد لظهور مواهب شعرية خالدة بينهم احمد شوقى.
> محمد التهامى
كان شاعرا وقائدا عسكريا وله الوان فى غاية الاهمية والاثر.. كواحد من كبار قادة الجيش واحد ابطال الثورة العرابية فقد كانت مدرسته الشعرية بعثاً للشعر العربى.
> الدكتور مدحت الجيار
الاستاذ بجامعة الزقازيق
البارودى احب الشعر وابدع فيه ببلاغة منفردة حتى اصبح رائد الشعر العربى فى العصر الحديث.
> د.يسرى عبدالله
استاذ النقد الادبى بجامعة حلوان
يمثل البارودى قيمة تاريخية فى مسيرة الشعر العربى خاصة انه جاء بعد التردى الابداعى وعلى بديه تسلم الرواد احمد شوقى وإسماعيل مظهر وحافظ ابراهيم وعلى طريقهم المتنبى وابن الرومى وابوتمام.
البارودى صفحة فى دفتر الوطن
بوفاة محمود ســامى البــارودى عن عمر 65 عامًا فى 15 ديسمبر 1904 لتطوى صفحة مهمة من تاريخ مصر السياسى والعسكرى حيث كان قريبا من ثلاثة من اسرة محمد على الوالى سعيد والخديو إسماعيل وتوفيق قبل نفيه فى رحلة استمرت 18 عاما فى جزيرة «سرنديب» والذى تعد قصيدته باسم هذه المنطقة من سيلان أحد اهم قصائده مات وترك تاريخا ادبيا حافلا لرجل كان خطيبا للثورة العرابية.
ويمر غدًا 120 عامًا على وفاته و185 عامًا على ميلاده.