أخيراً.. تم رسمياً تنصيب دونالد ترامب.. رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية لأربع سنوات قادمة.. فى احتفال مهيب بالبيت الأبيض.
لكن أمريكا.. لم تعد الجمهورية التى أرادها جورج واشنطن.. أو التى نص عليها الدستور الأمريكي. الرئيس الأمريكى الجديد ـ القديم.. ترامب يتطلع لتحويل أمريكا إلى إمبراطورية عظمى فى قارة أمريكا الشمالية بالكامل.
الأمريكيون يتحدثون عن تنصيب ترامب رئيساً لمدة أربع سنوات وكأنها فترة رئاسية تمتد لأربعة قرون.
وقد خطط العقل الإستراتيجى الأمريكى من البداية لجعل القرن الحادى والعشرون أمريكياً.. كما كان القرن العشرون قرناً أمريكياً.. انفردت فيه الولايات المتحدة بالهيمنة على النظام العالمى فوق كوكب الأرض.
وفى النهاية نكتشف أن الإمبراطور دونالد ترامب.. لا يريد أن يبدأ قرناً جديداً للإمبراطورية الأمريكية.. بل يريد أن يبدأ عصراً يمتد لمدة ألف عام لإمبراطورية الولايات المتحدة.. كما فعلت الإمبراطورية الرومانية من قبل.. فى فجر الحضارة الإنسانية على الأرض.
ويريد الرئيس الأمريكى الجديد أو الامبراطور ترامب أن يقوم بتغيير وجه الحياة.. داخل أمريكا خلال السنوات الأربع القادمة.. ويريد أيضاً حسم كل الصراعات العالمية والإقليمية لصالح الولايات المتحدة.. فى العصر الجديد للإمبريالية والاستعمار الأمريكى فوق كوكب الأرض.
ترامب يخطط لانفراد أمريكا بالهيمنة المطلقة على العالم.. باعتبارها القوة الأعظم فى هذا العالم.. حتى النهاية.. نهاية الوجود والحياة على الأرض.
لكن المفكرون الأمريكيون يعترفون بأن الطريق أطول من أن تصل إليه أقدام دونالد ترامب.. والزمن أقصر من أن يساعده على بلوغ الهدف!!
مع ذلك من الواضح أن دونالد ترامب يتولى رئاسة أمريكا هذه المرة فى أسوأ ظروف شهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل. العالم اليوم يحترق فعلاً بنيران الحروب الدموية والصراعات الدولية المتصاعدة والأرض تبدو كوكباً.. اشتعلت فيه النيران الحارقة.. تماماً مثل ما حدث فى لوس أنجلوس وكاليفورنيا مؤخراً.
اليوم الحرب الروسية فى أوكرانيا.. تحولت لحرب دموية كبرى فى قلب أوروبا. واشتعلت حرباً باردة جديدة بين روسيا وأمريكا. وهذه الحرب.. يمكن أن تتحول إلى حرب نووية بين موسكو وواشنطن فى أى لحظة.. عند أى خطأ فى الحسابات أو سوء تفسير للنوايا.
واشتعلت الحروب الإسرائيلية فى الشرق الأوسط.. بلا توقف أو نهاية حتى وان توقفت بهدنه فى غزة نتيجة جهود مصر وقطر وأمريكا.
ويؤكد المراقبون أن إسرائيل فى حد ذاتها.. وفى وجودها وبقائها إعلان دائم للحرب.. ويأتى اتفاق وقف النار التاريخى فى قطاع غزة.. ليكشف حقائق الطبيعة العدوانية لإسرائيل. هناك ما يشبه الإجماع فى عواصم العالم على أن مصر أثبتت من جديد أنها قوة دبلوماسية كبري.. وأنها تمكنت بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى من فرض وقف لإطلاق النار.. بالشروط والأسس التى توفر الحماية للأمن القومى لمصر على حدودها الشرقية.. ولم يكن ذلك سهلاً على الإطلاق لولا الموقف المصرى الراسخ.. الرافض لترحيل وطرد سكان غزة من أراضيهم.. وفى النهاية وافقت إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزة.
إسرائيل اليوم تعانى من الانكسار الداخلي.. السياسى والإستراتيجي.. وحتى العسكري.. الضربات التى قامت بها إسرائيل ضد حماس وحزب الله.. وضد إيران.. كلها تمت بالدعم العسكرى الأمريكى المباشر.. وتحت حماية الأساطيل الأمريكية والبريطانية.
تعترض صحف تل أبيب بأن حماس فازت بوقف إطلاق النار.. لكن إسرائيل لم تنتصر فى الحرب بعد.. وتؤكد أنه مازالت هناك مخاطر كبرى تواجه إسرائيل ووجودها فى الشرق الأوسط. إسرائيل تتصور الآن أنها مازالت فى الحرب الجديدة التى لا تتوقف ولا تنتهى من أجل ما تطلق عليه «حرب الاستقلال الجديدة»!!
وهى الحرب التى يدعى نتنياهو أنها سوف تعيد تشكيل وجود إسرائيل لأجيال قادمة.
ومن الآن بدأت حكومة المتطرفين بقيادة نتنياهو تتهاوي.. الاستقالات تتوالى وبن جفير يدعو لانتخابات جديدة.. ونتنياهو يهدد باستئناف الحرب فى غزة.
واعترفت مجلة فورين أفيرز الأمريكية بأن الرئيس الأمريكى ترامب يرث عن إدارة بايدن ميراثاً ثقيلاً فى الشرق الأوسط.
فقد تعرضت المنطقة لزلزال الحروب الإسرائيلية التى لا تنتهي.. وتحركت فوالق القشرة الأرضية تحت أقدام الشعب الفلسطينى والشعوب العربية فى لبنان وسوريا والعراق.. وحتى اليمن.
ولم تنته الحروب.. وخسرت أمريكا فعلاً مصداقيتها لدى الشعوب والدول العربية الصديقة والشريكة.. ببساطة لأنها تورطت فى الحرب مباشرة إلى جانب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. اليوم مصداقية أمريكا لدى العرب.. لم يعد لها وجود تقريباً.
توازن القوى يهتز فى الشرق الأوسط.. كما لم يحدث منذ عشرات السنين.. والرئيس ترامب.. نوعية من الرؤساء الأمريكيين الذين لا يمكن التنبؤ بأفعالهم أو ردود أفعالهم.. وقد تنطوى كل خطواته السياسية على مفاجآت مذهلة للجانبين الفلسطينى والإسرائيلي.
ووسط هذه الفوضى والضوضاء العالمية المصاحبة لاتفاق وقف النار فى غزة تردد صحف إسرائيل الشائعات أو التقارير حول وجود مخطط سرى لترحيل سكان قطاع غزة إلى أندونيسيا!!
وهناك حقيقة لا تغيب.. وهى أن إيران لم يبق أمامها سوى الملاذ الأخير.. وهو ضرورة التحول إلى قوة نووية بأسرع ما يمكن.. بعد فشل الصواريخ الإيرانية فى ردع إسرائيل.
اليوم تؤكد المصادر الدبلوماسية الأوروبية أن إسرائيل قد اتخذت القرار النهائى بضرورة تدمير مواقع ومنشآت إيران النووية. صحف واشنطن وتل أبيب.. تتحدث عن ضربة مشتركة أمريكية ـ إسرائيلية لإيران.
ولا يقف ضد هذا المخطط سوى رفض ترامب المبدئى للحرب.. وأنه يفضل التوصل إلى صفقة مع إيران.. تضع حداً لما لديها من برنامج نووي.. مقابل وقف العقوبات الاقتصادية القصوى عليها.
لكن تبقى الحقيقة وهى أن إسرائيل تخطط لحرب جديدة أسوأ من الحرب على غزة.. قبل أن يستقر وقف إطلاق النار النهائي.
وينتظر الشعب الأمريكى اليوم من الرئيس ترامب سياسات غير تقليدية فى مواجهة الأزمات والحروب التى أشعلها بايدن فى أوكرانيا وفى الشرق الأوسط.. ومواجهة الفوضى العالمية.. التى صنعها بايدن قبل أن يغادر البيت الأبيض بلا عودة.
ويبدو العالم اليوم على وشك السقوط فى جحيم حرب نووية كبرى قد تؤدى لفناء الحياة والحضارة فوق كوكب الأرض.
ويبقى سؤال محوري.. ما مصير الصراع الإستراتيجي.. بين قوة أمريكا القائمة.. وقوة الصين الصاعدة؟!
هل يمكن أن يلجأ ترامب للغزو والقوة المسلحة لاحتلال كندا والمكسيك وتحويلهما إلى ولايتين.. تنضمان للولايات المتحدة الأمريكية.. هل يشهد العالم قيام الامبراطورية الأمريكية فى أمريكا الشمالية بالكامل؟!!
ويؤكد دونالد ترامب أن ضم كندا والمكسيك للولايات المتحدة الأمريكية يمثل دعماً هائلاً للاقتصاد الأمريكي.. وللأمن القومى الأمريكى فى القرن الحادى والعشرين.
واعترف ترامب بأنه سوف يلجأ لسلاح الضغوط الاقتصادية القصوى لإجبار كندا على الاستسلام والانضمام لأمريكا.. كولاية جديدة. فى خطاب التنصيب لم يتحدث ترامب عن كندا.. لكنها فى جدول أعماله.
وقد أثارت تصريحات ترامب ردود فعل غاضبة فى الدانمارك وفى ألمانيا وفرنسا.. وحذر المستشار الألمانى أولاف شولتز من الإمبريالية الأمريكية الجديدة.
ويؤكد الواقع الإستراتيجى أن أمريكا.. هى أكبر قوة زراعية فى العالم. وهى تمتلك 400 مليون فدان من أجود الأراضى الزراعية فى العالم.. وهى أكبر وأجود منتج للقمح والحبوب.. وأمريكا أيضاً هى أعظم قوة تكنولوجية فى التاريخ. وأمريكا بثرواتها الزراعية والطبيعية وبقوتها التكنولوجية تبقى أعتى دولة فوق كوكب الأرض.
يؤكد الواقع أن البنوك الأمريكية الكبرى وبورصة وول ستريت فى نيويورك هم الذين صنعوا امبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية فعلاً.
والحقيقة أن كل أموال العالم.. وكل مدخرات الدول والشركات الدولية الكبرى وكل الودائع المالية للأفراد والدول توجد فى أمريكا.. وداخل بنوك أمريكا. وحتى ودائع بنوك سويسرا الشهيرة تتسرب بانتظام إلى داخل البنوك الأمريكية الكبري.. بهدف الاستثمار والإقراض.. داخل أمريكا.. وحول العالم.
وأغلب الاحتياطيات النقدية للدول الكبرى فى أوروبا والصين واليابان ودول الخليج توجد فى البنوك الأمريكية أو داخل البنك الفيدرالى الأمريكي. وتزيد ودائع الصين وحدها حالياً على تريليون دولار. وكان لروسيا 003 مليار دولار ودائع واحتياطيات نقدية فى بنوك أمريكا وأوروبا قبل العقوبات الحالية.
كل هذا يجعل الأمريكيون يتصورون أن الرئيس الجديد ترامب يمكنه إعادة بناء أمريكا من جديد خلال السنوات الأربع القادمة.. اعتماداً على الأموال النقدية السائلة الموجودة فى بنوك أمريكا الكبري.. وهى أموال جاهزة للاستثمار والإقراض والاستغلال فى المشروع القومى الأمريكى الجديد.. الذى لابد أن يقوم به دونالد ترامب.. وهو «إعادة تصنيع أمريكا».. وتحويلها إلى أكبر قوة صناعية وإنتاجية فى العالم.. وتتفوق على القوة الصناعية والإنتاجية للصين.
البنوك الأمريكية الكبرى هى فى النهاية «حصالة العالم» للادخار والإقراض.. هذا هو السر الحقيقى وراء ثروات أمريكا اللا نهائية.. وهذا هو السر الحقيقى لقوة الامبراطورية الأمريكية.. والسر الحقيقى لسيادة الدلار الأمريكى على الشرايين المالية للاقتصاد العالمي!!
ويقول الخبير الاقتصادى الأمريكى أورين كاس إن كل المؤشرات تؤكد وجود مخاطر اقتصادية كبري.. تهدد أمريكا والمواطن الأمريكى فى حياته اليومية. فقد تراجعت قدرات أمريكا الصناعية.. واختفت عبارة «صنع فى أمريكا» من فوق كل السلع تقريباً.. وخسرت أمريكا التفوق التكنولوجى فى قطاعات عديدة مهمة للغاية.
اليوم.. يؤكد أنصار ترامب أن شعار «أمريكا أولاً».. يجعل «المواطن الأمريكى أولاً».. وهذا يفرض على ترامب ضرورة الحد من وحوش التضخم وارتفاع الأسعار الذى يرهق المواطن الأمريكى بشدة. وخطة ترامب «لإعادة تصنيع أمريكا» وتوطين الصناعات الاستهلاكية والتكنولوجيا الرقمية العالمية هى الطريق الوحيد لتحويل أمريكا إلى قوة صناعية وإنتاجية كبرى تنافس الصين وتستغنى عن الاستيراد من الصين.