منذ عصورٍ بعيدة، كان الغرب يتربع على عرش القوة الاقتصادية والسياسية والثقافية فى عرش العالم، فقد كانت دول الغرب تشكّل مركزًا للابتكار والتقدم، حيث سارع العديد من الأفراد والمجتمعات فى العالم العربى إلى تبنّى الغرب كنموذجٍ يحتذون به، ومرجعٍ يستشيرونه فى تحقيق التقدم والتحضر. لكن هذا الاندماج الثقافى والاقتصادى والسياسى مع بعض دول الغرب يثير تساؤلات شائكة: هل مازال العرب يرون فى الغرب مرجعًا لهم؟ وهل يعنى الاندماج فقدان القدرة على الوقوف بأنفسهم واتخاذ القرارات المستقلة؟
وها هى النتيجة المُرَة تبرز واضحة! فشعوب الجنوب بأسرها تغرق فى عتمة الجهل، والتبعية وراء الغرب، فتغيبَ عنها الوعي، وتعجز عن استعادة وعيها الأصلي، مقيدةً بالنظرة المحدودة لما بعد حدودها الضيقة، وما يخدم طغاة الزمن وأذنابهم أكثر من ضياع الوعى لدى الشعوب. وما كانت نتيجة كل ذلك إلا استمرار الشعوب فى خضوعها تحت أقدام العبودية، محكومة بقيود الجهل والتبعية.
تبرز إحدى أبرز مظاهر الاندماج الغربى بقوة فى تأثيرها السياسى والاقتصادى المدوي، فعلى الرغم من التحولات السياسية الكبيرة والثورات الهائلة التى اجتاحت بعض أقطار العالم العربى فى السنوات الأخيرة، إلا أن الكثير من هذه الدول لا تزال تعتمد بشكل شبه كامل على دعمها الاقتصادى والعسكرى من الدول الغربية. وهذا الاعتماد المستمر قد يكون السبب الرئيسى فى عدم القدرة على اتخاذ القرارات المستقلة وعدم إيقاف الصراعات المستمرة فى مناطق مثل غزة.
من يعتقد أن زمن الأصنام قد ولي، فهو مخطئ! ومن يظن أن زمن العبودية قد انقضي، فليكون على علم أيضا بأنه مخطئ. فالاستعمار لا يزال حاضرًا، والاستعمار الفكرى والثقافى لا يزال يتخذ مناطقنا محطته الرئيسية. وما زال الشعب جاهزًا للخضوع مجددًا إذا ما عاد الاستعمار بوجهه الجديد، دون أن يفكر فى دفع ثمن الحرية التى ينبغى أن يتمتع بها، إنه الواقع الذى نعيشه اليوم، والذى يستحق أن نقف ضده بكل قوة وعزيمة.
فى مناطق مثل غزة، يثبت الصراع المستمر تحديًا حقيقيًا للهوية العربية ولقدرتها على الوقوف بمفردها وحماية مصالحها. ومع ذلك، يظل الاعتماد المستمر على الدعم الغربى يعيق اتخاذ الخطوات الجريئة لوقف هذه الحروب وتحقيق السلام.
فى هذا السياق المحوري، يُنظر إلى أمة مكلومة، تعانى من آثار الصراع والتهميش، تبحث عن نفسها فى زمن اليأس. وفى وقت يُعتبر فيه الصمت شكلاً من أشكال الرضا، يتم حجب أصوات العلماء والمفكرين، مع محاولات تقييدهم أو تجنيدهم، بينما تظل الأفكار المتطرفة تمارس نفوذها.
وفى ظل هذا الواقع القاسي، تبدو المؤسسات العربية مُشلولة، فالتعليم فى حالة من التدهور المستمر، والإعلام يُعرَض للرشاوى والتلاعب. إنها صورة قاتمة لواقع يعج بالتحديات والصعوبات.
ولكن، فى ظل هذه الأزمة، تتجلى الحاجة الملحة لإحياء روح النضال والتحرر، ولإيجاد طرق جديدة للتفكير والتصرف. يجب على العرب أن يستلهموا القوة من تاريخهم العظيم وثقافتهم العريقة، وأن يُعززوا قدرتهم على الابتكار والتجديد، من أجل بناء مستقبل يعكس قيمهم ومبادئهم.
إنه الوقت المناسب لإعادة بناء الهوية العربية، ولبناء علاقات جديدة مع الغرب تقوم على التعاون المتبادل والاحترام المتبادل. إنها رحلة طويلة وصعبة، لكنها ضرورية لتحقيق التغيير المنشود وبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.