انقضى أمس، السابع من فبراير، الشهر الرابع على بدء الحرب الإسرائيلية الهمجية على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية، دون أن تحقق هذه الحرب أى هدف من أهدافها التى أعلنها رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو، بل دون أن تحقق نتيجة إيجابية واحدة لصالح إسرائيل، سواء على مستوى الداخل أو على مستوى الخارج، لا عسكرياً، ولا سياسياً، ولا اقتصادياً، ولا اجتماعياً.
الانتصار والهزيمة فى الحروب، لا يقاسان بحجم التدمير الذى لحق بهذا الطرف أو ذاك، ولا بعدد الشهداء والمصابين الذين تسفر عنهم هذه الحروب.
لندن وباريس، عاصمتا بريطانيا وفرنسا، على سبيل المثال، المنتصرتان فى الحرب العالمية الثانية، لحق بهما من الدمار، وقدمتا من الضحايا، ما لا يقل عما لحق بروما وبرلين، عاصمتى إيطاليا وألمانيا المنهزمتين فى الحرب.
حدث ذلك فى حرب أطرافها جميعاً دول، وجيوش نظامية، ومستويات قوية عسكرية واقتصادية متماثلة أو متقاربة.
القتل والتدمير سهل، وهو أكثر سهولة بالنسبة لإسرائيل قياساً إلى أنها دولة تملك جيشاً مصنفاً عالمياً بين أقوى الجيوش وأكثرها وأحدثها عتاداً واستعداداً وتتمتع بحماية ظهير عالمى هو الولايات المتحدة، القوة العالمية الأولى فى الكون، والتى تعتبر أمن إسرائيل، رسمياً جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومى الأمريكي.
إسرائيل فى هذه الحرب، تواجه حركة مقاومة شعبية فى قطاع محاصر منذ سنوات لا تملك من عناصر القوة العسكرية أو الاقتصادية إلا الأقل القليل، ولا تتمتع بحماية أى ظهير عالمى أو إقليمي، ولا يمكن حتى لأى طرف يفكر فى مساعدتها، النفاذ بهذه المساعدات إليها إلا من خلال إسرائيل وبموافقتها.
فإذا كانت إسرائيل قد دمرت فى حربها مدناً وأحياء ومخيمات ومدارس ومستشفيات كاملة فى غزة وحققت رقماً قياسياً من الشهداء والمصابين الفلسطينيين بلغ مجموعه مائة ألف شهيد ومصاب فى أربعة شهور، بما لم تحققه أى حرب سابقة فى العالم منذ انتهاء الحرب الأمريكية فى فيتنام فإن هذا وأضعافه ـ إذا استمرت الحرب ـ لا يمثل انتصاراً بالمقاييس العسكرية أو بأى مقاييس أخري.
يكفى أن سبعين بالمائة من هؤلاء الشهداء والمصابين أطفال ونساء أى مدنيون عزل وليسوا مقاتلين فى الميدان ولا يملكون سلاحاً.. بينما كل من قتلتهم أو أصابتهم المقاومة الفلسطينية فى غزة فى هذه الحرب، وهم بالآلاف، ضباط وجنود مقاتلون فى جيش الاحتلال، فضلاً عن تدمير المقاومة لعشرات، بل مئات الآليات العسكرية، وليس منازل ومدارس ومستشفيات ومنشآت مدنية أخري.
فإذا كان هذا هو فقط ما حققته إسرائيل فى هذه الحرب، فهو الهزيمة بعينها.
وإذا كانت إسرائيل تعتبره نتيجة إيجابية للحرب حتى الآن، فقد حولته دولة جنوب أفريقيا بدعواها التى أقامتها أمام محكمة العدل الدولية وبقرار المحكمة الذى أصدرته فيها إلى أكبر وصمة عار دولية لحقت بإسرائيل منذ قيامها بعد وصمة استيلائها على فلسطين وهو اتهام معلق فوق رأس إسرائيل بأن ما ارتكبته من قتل ودمار شاملين فى غزة يمثل جريمة إبادة جماعية يستحق أن تنظره المحكمة وتفصل فيه.
إذن.. بماذا يقاس النصر أو الهزيمة فى الحروب؟!
فى حربنا هذه، لو حققت إسرائيل كل أهدافها المعلنة من الحرب، وهى القضاء على حركة حماس واستعادة الرهائن وضمان عدم تكرار عملية «طوفان الأقصي» التى أشعلت الحرب فى السابع من أكتوبر الماضي، فلن تخرج منتصرة من الحرب.
حركة حماس لسيت كل الشعب الفلسطيني.. بل ليست كل فصائل المقاومة فى هذا الشعب.. وعملية طوفان الأقصى يمكن أن تتكرر بعد القضاء على حماس إذا استمرت القيادات فى إسرائيل على نظرتها للقضية.. والرهائن يمكن أن يعودوا فى أى وقت إذا ما تم اتفاق بين الطرفين يلبى شروط كل منهما بصورة مؤقتة كما يجرى بحثه الآن.
خطأ إسرائيل الاستراتيجى ومعها ظهيرها الأمريكى أنها لا ترى القضية الفلسطينية فى صورتها الحقيقية الشاملة، أو تراها ولا تريد أن تتعامل معها بهذه الصورة.
القضية الفلسطينية قضية شعب بأكمله، لا قضية هذه الحركة أو ذلك الفصيل بعينهما.. وهذا الشعب له حق تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي، وبسط سيادته عليها من خلال إقامة دولته المستقلة وفقاً لمرجعيات الشرعية الدولية.. وفصائل المقاومة، هى مؤقتاً ـ جيش هذا الشعب المحروم من أى وسيلة أخرى للدفاع عن نفسه، حتى كان يلجأ لاستخدام الطوب والحجارة فى انتفاضاته ضد قوات الاحتلال المدججة بالسلاح، إلى أن تصبح له دولة ذات قوام ومؤسسات معترف بها دولياً.
وعملية «طوفان الأقصي» لم تكن اختيارية من جانب من خططوا لها ونفذوها.. كانت أشبه بعملية انتحارية ضد قوة جبارة، ودون ظهير أو غطاء إقليمى أو دولى يمكنها الاعتماد عليه، بل فى غياب أى يقين مسبق بنجاحها أو حتى بتقبل أحد فى العالم لها إذا نجحت .
كانت عملية اضطرارية بعد أن احبطت إسرائيل كل جهود السلام على مدى ثلاثة عقود واقتربت من إغلاق هذا الملف تماما لتستكمل إجراءاتها فى ابتلاع بقية الأرض الفلسطينية التى تمثل الرصيد المتبقى للشعب لإقامة دولته، واستباحة المقدسات.. إلى آخره.
«طوفان الأقصي» كانت إنذارا عمليا قويا لإسرائيل بأن الشعب الفلسطينى حى لن يموت، وأنه لن يتنازل عن حقه فى أرضه وإقامة دولته المستقلة، والشرعية الدولية تؤيده فى استخدام كل الوسائل لتحقيق هدفه.
هذا المعنى باق ومتجسد فى قلب كل فلسطينى داخل الأرض الفلسطينية أو فى أى مكان آخر على وجه الأرض، وهو كذلك قبل أن تظهر حماس وغيرها من الفصائل، وأصبح أكثر تجسيدا بعدها.
إسرائيل فشلت بعد أربعة شهور من الحرب فى مواجهة هذا المعنى فشلت فى ضرب فكرة الأرض والوطن لدى الشعب الفلسطيني.. فشلت فى كسر إرادة الشعب.. فشلت حتى فى الحد من صموده، رغم حجم القتل والتدمير، والتجويع والتهجير.
وستفشل إسرائيل فى هزيمة هذا المعني، حتى لو استمرت فى حربها أربعة قرون وليس أربعة شهور.
وكفى أن الفلسطينيين يسلمون راية الصمود والتحدى والمقاومة لبعضهم جيلا بعد جيل على مدى ثلاثة أرباع القرن منذ أقامت إسرائيل دولتها على أرضهم المغتصبة.
لقد بدأت إسرائيل حربها على غزة وهى مهزومة أصلا.. بعد أن تلقت أكبر ضربة نوعية فى تاريخها أطاحت بسمعة جيشها واخترقت كل أجهزة أمنها.
وبعد أن تعاطف الكثيرون فى العالم معها فى بداية الحرب، وأدانوا ما اعتبروه عدوانا عليها بعملية طوفان الأقصي، فإن هذا التعاطف بات يخسر شيئا فشيئا.. والقضية الفلسطينية ـ فى المقابل ـ ملف ساخن على كل الموائد العالمية تتوهج شيئا فشيئا.
لقد فرض الفلسطينيون على إسرائيل، ولأول مرة، أن تخوض حربا خارج الحدود، وأن تستمر فيها مدة أطول من كل ما سبقها من حروب، وأن تزيد خسائرها.
واستمرار إسرائيل فى الحرب هو استمرار لهزيمتها الاستراتيجية.
وهو الانتقال بالمنطقة، من خلال توابع هذه الحرب إلى وضع قابل للخروج عن سيطرتها وسيطرة ظهيرها الأمريكي.
ومحاولاتها المتصاعدة التحرش بمصر، ودفع الفلسطينيين من غزة إلى سيناء هو عصف بتجربة السلام الوحيدة التى تمثل صمام الأمن والاستقرار فى المنطقة.
خاصة بعد أن اثبت الفلسطينيون أنهم مصدر السلام والحرب مع إسرائيل، وليس عمليات الدمج القسرى لها فى المنطقة قبل أن تعيد لهم أرضهم وحقوقهم.