تأتى الزلازل والانهيارات والسيول على رأس الكوارث الطبيعية التى يقف الإنسان عاجزاً عن منع حدوثها ولكن ربما يكون فى إمكانه اتخاذ بعض الإجراءات والتدابير التى من شأنها الحد من الآثار الناتجة عنها وهو ما حرصت مصر عليه فى السنوات الأخيرة من خلال إستراتيجية عمل موحدة شاركت فيها كل الوزارات والجهات المعنية على مدار السنوات العشر الماضية حيث تم وضع خطة عاجلة للقضاء على المناطق العشوائية الخطرة بما تشمله من مبانً قديمة متهالكة أو مساكن واقعة فى مسارات السيول وأخرى أسفل المناطق الجبلية المعرضة للانهيار وفى المسار الآخر كان التحرك العلمى لوضع أسس ومعايير بنائية تضمن اتباع الأسس الفنية فى البناء خاصة فى المبانى الشاهقة الارتفاع لضمان عدم تأثرها بأى هزات أرضية فجاءت معظم الأبراج التى شيدتها الدولة فى المدن الجديدة وعلى رأسها العاصمة الإدارية الجديدة وفقاً للكود المصرى للزلازل .
مع حدوث الزلزال الذى شهدته مصر فى الساعات الأولى من صباح أمس وشعر به سكان القاهرة وبعض المحافظات بقوة استدعت ذاكرة زلزال أكتوبر 1992 لتسود حالة من الهلع والخوف خاصة أن الأخير جاء بقوة 6.4 ريختر مقارنة بــ 5.8 ريختر قوة زلزال أكتوبر الأمر الذى زاد من الشعور بالخوف مع حدوث توابع إلا أن ما شاهدته مصر من نهضة عمرانية على مدار السنوات الماضية بدد هذا الخوف بسبب القضاء على كافة المبانى المتهالكة والتى كانت معرضة للانهيار فى أى لحظة ليس مع وقوع زلزال فحسب ولكن مع مرور بعض الشاحنات الثقيلة بجوارها أو اللوادر والبلدوزرات.
ثوانِ معدودة هى زمن وقوع أى زلزال شهدته مصر على مدار التاريخ إلا أن هذه الثوانى كانت كفيلة بإحداث كوارث بشرية كما حدث مع وقوع زلزال أكتوبر 1992 الذى خلّف 561 قتيلاً و12ألفاً و392 مصاباً بخلاف تشريد 50 ألف مواطن انهارت منازلهم، وتمر الثوانى مرور الكرام ويبقى الأمر مجرد هزة أرضية يشعر بها سكان القاهرة والمحافظات القريبة من مركز الزلزال كما حدث مع الساعات الأولى من صباح أمس وهو الأمر الذى يطرح مجموعة من التساؤلات عن السبب فى ذلك بعضها يجد إجابات لدى خبراء البحوث الفلكية لكن إجابات الجزء الآخر ستكون فى جهود الدولة على مدار السنوات الماضية.
ماذا لو لم تنجح مصر فى القضاء على المناطق العشوائية الخطرة ووقع زلزال بهذه القوة.. سؤال يطرح نفسه خاصة مع ما شهدته هذه المناطق من انهيارات متتالية دون وقوع أى هزات أرضية.. الأمر الذى جعلها تشكل خطراً داهماً على حياة سكانها الذين عاشوا لحظات من الرعب وهم يشاهدون المنازل تنهار لتدفن أسفلها أحياء كانوا بين أيديهم من لحظات.
«الجمهورية الأسبوعي» طرح هذا التساؤل على عدد من المسئولين فأجابوا بأنه كان سيكون لدينا 246 ألف أسرة يشكلون مليوناً ونصف مواطن فى خطر حيث كانوا يقيمون فى منازل غير آمنة موزعة على 357 منطقة عشوائية كانت تشكل خطورة داهمة على حياة قاطنيها .
وأوضح المهندس خالد صديق المدير التنفيذى لصندوق التنمية الحضارية أن وضع جزء كبير من هذه المنازل كان فى غاية الصعوبة حيث مرور أى بلدوزر بجوارها كان يشعر المقيمون فيها برجة شديدة بل إن بعضها انهار بسبب أعمال بناء أو حفر مجاورة فما بالنا بزلزال بهذه القوة.
أضاف: القضاء على المناطق الخطرة تكليف رئاسى أسند للصندوق وحظى بمتابعة دورية من الرئيس عبد الفتاح السيسى وهو ما ساهم فى سرعة إنجاز الخطة التى تم وضعها والتى تمت من خلال محورين.. إخراج سكان هذه المناطق منها لحين تطويرها كما حدث فى مثلث ماسبيرو وروضة السيدة بالقاهرة وعشش الصيادين برأس البر بدمياط وعشس محفوظ بالمنيا أو إنشاء مجتمعات سكنية تتوافر بها كافة الخدمات لتحقق جودة الحياة لقاطنيها ونقل سكان هذه المناطق إليها كما حدث فى الأسمرات والمحروسة ومعاً والسكن البديل بحدائق أكتوبر والعبور.
أكد صديق أن عدم التحرك السريع من قبل الدولة على مدار السنوات الماضية نتيجته كانت ستكون ضحايا بالمئات ولو حدث زلزال مثل الذى شهدته مصر من الساعات الأولى من صباح أمس مع وجود تلك المناطق كنا سنشاهد انهيار جزء كبير منها وهو أمر كانت الدولة المصرية حريصة على عدم حدوثه فاتخذت العديد من الإجراءات لمنع الكوارث التى قد تنجم عن وقوع ظواهر طبيعية لا يمكن لبشر منعها.
أضاف: مازالت الذاكرة تحتفظ بمشاهد ضحايا انهيار صخرة الدويقة التى دكت المنازل أسفلها وهو الأمر الذى تكرر منذ سنوات لكن لم يشعر به أحد فى ظل وجود مشروع مثل الأسمرات الذى احتضن سكان هذه المنطقة ووفر لهم حياة كريمة داخل منازل تم تأسيسها بالكامل.
أوضح أن الكوارث الطبيعية لم تتوقف عند انهيار صخرة الدويقة ففى مارس 2020 شهدت البلاد عاصفة التنين وهو ما أتبعه من سقوط الأمطار بشدة نتج عنها سيول اقتلعت منازل منطقة الزرايب بــ 15 مايو وهى منطقة أقيمت فى مجرى السيل وعلى الفور كان تحرك الدولة لإنشاء مشروع زهور 15 مايو كسكن بديل يبعد مسافة صغيرة عن المنطقة الأساسية وتم نقل سكان أهالى المنطقة بالكامل فيها وللحفاظ على نشاطهم فى فرز القمامة تم إنشاء ورش للفرز فى نفس المنطقة وألحق بها مصانع تدوير مخلفات لخلق مجالات للاستثمار فى المنطقة وهو الأمر الذى تم بصورة مختلفة حيث إنشاء السدود لتأمين سكان هذه المناطق من السيول كما حدث مع إنشاء سد أبوزنيمة بجنوب سيناء.
أكد أن نجاح الدولة فى تنفيذ خطتها للقضاء على المناطق العشوائية لم يكن سهلاً حيث جاء التكليف الرئاسى فى عام 2016 وتم الانتهاء منه فى 2021 مما يعنى خمس سنوات تم فيها توفير 246 ألف وحدة سكنية بلغت تكلفتها 63 مليار جنيه بما يوازى ٤ مليارات دولار وهو رقم ضخم تحملته ميزانية الدولة بالكامل.
أشار المهندس خالد صديق المدير التنفيذى لصندوق التنمية الحضرية إلى أن الوضع فى القاهرة كان ينذر بحدوث كارثة مع وقوع أى زلزال حيث كانت تحتضن وحدها أكثر من 30 منطقة خطرة غير آمنة على حياة سكانها ونجحت جهود الدولة فى خلق حياة آمنة لهم من خــلال توفيــر 61 ألف وحدة سكنية داخل القاهرة، بينما أن من أبرز مشروعات التطوير كان مشروع الأسمرات بمراحله الثلاثة والذى وفر 18 ألف وحدة سكنية والمحروسة حيث يضم 4.9 ألف وحدة ومعاً الذى يضم 4.6 ألف وحدة بخلاف 840 وحدة فى مشروع الطيبي.
لفت إلى أن اهتمام الدولة بالقضاء على خطورة المناطق العشوائية لم يتوقف على القاهرة فقط حيث امتد إلى المحافظات فجاء مشروع بشاير الخير ليوفر 31 ألف وحدة بالإسكندرية التى كانت تضم نسبة كبيرة من المنازل المتهالكة بخلاف مشروعات امتدت لتطوير المناطق الخطرة فى باقى المحافظات مثل القابوطى ببورسعيد وزرزارة وجبل العش وحلايب وشلاتين بالبحر الأحمر، والصيادين بسوهاج وشمال وجنوب الصيادين بدمياط وغيرها من المناطق فى الوادى الجديد وجنوب سيناء والجيزة.
البحوث العلمية
ومع الجهود العظيمة التى اتخذتها الدولة المصرية للقضاء على خطر المناطق العشوائية كان التحرك المتوازى فى مجال البحث العلمى من خلال وضع أسس وتطوير آخرى قائمة من أجل توفير عنصر الأمان للمواطن فيما يتم تشييده من مبانى من ناحية والحفاظ على الثروة العقارية من ناحية آخرى ومن هنا جاء دور مركز بحوث الإسكان والبناء التابع لوزارة الإسكان فى مراجعة أعمال كافة المشاريع التى تنفذها الدولة فى خطتها لتحقيق التنمية العمرانية بجانب استمرار دوره فى تحديث أكواد البناء خاصة المتعلقة بالمبانى شاهقة الارتفاع.
الدكتور محمد مسعود رئيس مجلس إدارة المركز القومى لبحوث الإسكان والبناء أكد أن مصر ظلت لفترة طويلة تعانى من عدم الأخذ بالبحوث العلمية فيما يتم تنفيذه على أرض الواقع وربما كان هذا سبباً فى انهيار الكثير من المبانى الحديثة بعد فترة قصيرة من تشييدها لعدم اتباع الأســـاليب العلمية لكن هذا الأمر أخذ منحياً آخر مع الجمهورية الجديدة واهتمــام الرئيس عبدالفتاح السيسى بالبحث العلمى وتوجيهاته بربط جهود البحث العلمى بالواقع للوصول إلى أفضل النتائج فيما يتم تنفيذه.
أضاف هذا الأمر تم الأخذ به فى كافة المشروعات العمرانية التى يتم تنفيذها من قبل وزارة الإسكان خاصة المدن الجديدة وفى مقدمتها العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة التى شهدتا إنشاء المبانى شاهقة الارتفاع مثل البرج الأيقونى والأبراج الشاطئية حيث كان المركز حاضراً فى مراجعة كافة الاشتراطات البنائية والتأكد من مطابقتها لكافة الأكواد المعمول بها.
أوضح أن الكود المصرى لحساب الأحمال والقوى لأعمال المبانى من أهم الأدلة الهندسية فى مجال البناء والهندسة المعمارية فى مصر ونهدف من خلاله تحديد المتطلبات الأساسية لحساب الأحمال والقوى الواقعة على المبانى بطريقة دقيقة وموثوقة.
أشار إلى أن المركز كان حريصاً على عقد دورات تدريبية على هذا الكود وهو ما تضمنه القرار الوزارى الصادر من وزير الإسكان فى 2011 بالعمل بالكود المصرى لحساب الأحمال والقوى فى الأعمال الإنشائية حيث نص القرار على أن تتولى اللجنة الدائمة لإعداد الكود اقتراح التعديلات والإضافات اللازمة لتحديث الكود على أن يتولى مركز بحوث الإسكان والبناء العمل على نشر الكود والتعريف به والتدريب عليه حيث يعد الالتزام بالكود المصرى لحساب الأحمال والقوى ضروريًا لضمان أمان واستقرار المبانى وتحقيق الاحتياجات الهندسية والبيئية للمشروعات العقارية والتنموية وهو ما يعمل المركز على تطبيقه.
وأكد أن الكود المصرى لحساب الأحمال والقوى لأعمال المبانى أداة حيوية تضمن سلامة المبانى واستقرارها وتلبية احتياجات المجتمع بشكل مستدام ولا خوف على مصر من وقع الزلازل خاصة مع التنمية والنهضة العمرانية التى تمت على أعلى المعايير والأسس العلمية.
مقاومة الزلازل
اوضح الدكتور يحيى عبد المجيد نائب رئيس مجلس إدارة المركز القومى لبحوث الإسكان والبناء وأستاذ الخرسانة المسلحة أن الأكواد الحالية خاصة بالأحمال أو مقاومة المبانى المختلفة أى كان نوعها سواء كانت خرسانية أو معدنية مشيراً إلى أنه فى عام 1992 تم تحديث كود الخرسانة وتضمن حسابات الزلازل حتى أوائل العقد الماضى حيث تم إعداد كود مستقل للأحمال وتضمن جزءاً خاصاً بالزلازل وهو ما تم تطويره وإصدار كود الزلازل والذى تضمن احتياطات تصميمة تتحمل أحمال الزلازل فى المبانى المصرية لتأمينها ضد الانهيارات حال حدوث هزات أرضية.
أكد أن تلك الأكواد جميعها مطبق فيما يتم تنفيذه من إنشاءات بنائية مشيراً إلى التنسيق بين مركز بحوث الإسكان والبناء، ومعهد البحوث الجيوفزيقية المختص بمراصد الزلازل حيث يمتلك أجهزة رصد على مستوى الجمهورية لإعداد تحديث مستمر لأحمال الزلازل من خلال ما يتم رصده.
وأرجع الدكتور يحيى عبدالمجيد انهيار بعض المبانى لوجود أخطاء على مستوى التصميم أو التنفيذ وهو ما يؤكده ما حدث فى زلزال أكتوبر 1992 حيث كانت معظم المبانى المنهارة فى الأصل معيبة لأخطاء فنية فى حين المبانى العالية الارتفاع لم تتأثر باستثاء ظهور شروخ فى الحوائط فى بعضها ،كذلك الحال فى المبانى الأثرية والتراثية حيث لم تتأثر فى هذا التوقيت وتم معاينتها والتعامل مع بعض الشروخ التى ظهرت فيها.
وأوضح أن مركز الزلزال الذى حدث فى عام 1992 كان بدهشور وهو ما جعل آثره أكبر على عكس زلزال صباح أمس حيث كان على بعد 650 كيلو متر من مدينة رشيد وهو ما جعل الآثار الناتجة عليه منعدمة رغم قوته مع الأخذ فى الاعتبار أن جميع المبانى المصرية مصممة وفق معايير الأحمال ومقاومة الزلازل.
وأكد أن جميع الأبراج التى تم تصميمها فى العاصمة الإدارية مثل البرج الأيقونى شارك مركز بحوث الإسكان والبناء فى مراجعة الاشتراطات والتصميمات مع المكاتب والشركات الأجنبية القائمة بالتنفيذ وجميعها مصممة لمقاومة الزلازل ولم يتم تنفيذها إلا بعد صدور قرار المجمعة العشرية الخاصة بإصدار وثائق التأمين على المباني.