بعد ساعات معدودات نستقبل شهر الصيام ويحدونا أملٌ كبير أن يكون عملنا فى رمضان هذا العام أكثر إيجابية واستلهاماً لروح الشرع الحنيف عما سبقه من أعوام فما أكثر السلبيات وما أقل الإيجابيات، وما أكثر القول وما أقل العمل، وما أعظم ما يدعونا إليه الشرع الحنيف وما أبعد ما نفعله من سلوكيات عن مقاصد هذا الشرع وغاياته، فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب والشهوات فى نهار رمضان ثم التكالب عليها بعد الإفطار بنهم وإسراف وتبذير..فما أراد الله بالصيام تجويعنا ولا حرماننا من الطعام والشراب، بل أرادنا أن نشعر بآلام ومتاعب الفقير؛ فنبادر بمد يد العون له، فما جاع فقير إلا ببخل غني.
نتمنى أن يتفاعل الخطاب الدينى مع مستجدات العصر؛ فلا يكتفى خطباء المساجد ووعاظ الدعوة بالحديث المعتاد أو التقليدى عن فضائل الصوم وضرورته ومقدار زكاة الفطر وهل تخرج نقدًا أم حبوباً بل نحتاج منهم أن يقولوا للصائمين ان من يصوم فى بيت اغتصبه فلا صيام ولا زكاة له، وأن من يفطر بعد صيامه بمال منهوب فلا صيام له ولا زكاة له، وأن من عليه مظلمة فعليه ردها إلى أهلها والتوبة قبل أن يزكى ويتصدق، فالله تعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا.
ليت الدعاة والخطباء يلتمسون إلى جانب الآيات والأحاديث والأدلة النقلية ما يخاطب العقل ويحرك الضمائر ليبقى فى الوعى ما يحرك الناس للعمل الإيجابى وتغيير السلوكيات السلبية إلى أخرى إيجابية تتفق وصحيح الدين وصالح المجتمع، ليتهم يقولون للصائمين ان من يمنع أخواته من الميراث ويأكل حقهن فلا صيام ولا زكاة له، ليتهم يعيدون التركيز على أن المال الحرام لا تخرج منه زكاة ولا صدقة، وأن صلة الأرحام وبر الوالدين أكبر من مجرد الاكتفاء باتصال هاتفى أو رسائل إلكترونية وأن جبر الخواطر من أوجب الواجبات.
نرجو لو يتبنى الخطاب الدينى رؤية فعالة لاستعادة الروح فى العلاقات الاجتماعية التى أصابها الجفاء والقسوة بسبب الاستهتار بحقوق الآخرين ومشاعرهم، فحقوق الجار أكبر من مجرد إلقاء تحية عابرة أو سلام عارض، دون أن يكلف الناس أنفسهم مشقة السؤال عن الجار المحتاج الذى قال رسول الإنسانية فى حقه:»واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ:مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ:الَّذى لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ».. ويقول :ما زال جبريلُ يُوصينى بالجار حتى ظننتُ أنه سيُورِّثه؛ لشدة الوصية التى بلَّغه إياها جبريل عن الله تعالي. وقال لأبى ذرٍّ:»إذا طبختَ مرقةً فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك»، وقال عليه الصلاة والسلام:»مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره، وفى اللفظ الآخر:فلا يُؤْذِ جاره، وفى لفظٍ:فليُحْسِنْ إلى جاره.
نذكر خطباء المساجد أن يقولون للناس إن جبر حارس العمارة والخادم وعامل النظافة وكل أصحاب الوظائف البسيطة الشريفة أمرٌ يثاب عليه فاعله، فليس جزاء الإحسان إلا الإحسان.
أخبروهم بحرمة المال العام وحرمة الطريق فليس من الصيام أن يتدافع الناس ويتشاجروا على أولوية المرور فى نهار رمضان، ويفقدوا أعصابهم بانفعالات منفلتة بدعوى أنهم صائمون، فالصيام امتناع عن الإيذاء والإضرار بالغير بأى صورة من الصور.
أخبروا الصائمين بمسئولياتهم تجاه أولادهم ومسئوليتهم عن تصرفات هؤلاء الأولاد، ولن يكتسب هؤلاء سلوكًا حسنًا إلا بالقدوة الحسنة؛ فالتربية بالقدوة أكثر فعالية وأقوى أثرًا، فلا تطلبوا من أولادكم أن يفعلوا شيئًا بينما تفعلون أنتم عكسه؛ فلا يصح للرجل مثلاً أن يدخن أمام أولاده، ثم يتوقع منهم أن يتحاشوا ذلك، فالولد سر أبيه وإذا أردت أن تطاع فعليك أن تبدأ بنفسك، تصدق أمام ابنك الصغير حتى يقلدك حين يكبر، تحدث بصوت معتدل فى خطاب الآخرين حتى يشب على دربك ويقتفى خطاك.
أخبروا التجار بحرمة احتكار السلع، وأن «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» بنص الحديث النبوي، وأن « المحتكر ملعون» وأن «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله، وبرئ الله منه».. وأن من يَسْتَغل ظروف الناس ويحتكر السلع ويبيعها بأسعار مبالغ فيها فقد ارتكب مُحرَّمًا؛ نظرًا للضرر الناجم عن استغلاله احتياج الناس إلى مثل هذه السلع، فهو يضرُّ الناس ويضيِّق عليهم، وهذا يؤدى إلى إيذائهم ماديًّا ومعنويًّا، وهذا منهى عنه شرعًا.
أخبروا الناس أن الدين معاملة، وأن ما بينك وبين الله هين فهو الرحيم الغفور، يغفر الذنوب جميعاً، وأن مظالم العباد لا فكاك منها إلا بالتوبة وإعادة الحقوق إلى أهلها.. فهل توقفت يوماً مع نفسك لترى من له حق عليك تعمدت منعه عنه، وأنه آن الأوان لترد له هذا الحق قبل أن يقتص منك قصاصًا عظيما لا طاقة لك بدفعه حين تقف بين يدى ربك.
أخبروهم أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأن إيذاء الناس جرم لو تعلمون عظيم.
أخبروهم أن آيات الصيام ختمها الله بقوله «لعلكم تتقون»، فتلك هى غاية الصيام وحكمته، فهل تحققت التقوى فى صيامك.. أم كنت ممن قال فيهم نبينا الكريم «ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ».
بناء وعى حقيقى لدى الناس يبدأ من الصغر فى الأسرة والمدرسة ثم تتسع الدائرة شيئًا فشيئًا لتشمل الجامعة والمسجد والكنيسة والإعلام، وبناء الضمير يستلزم التركيز على القدوة الحسنة وإبرازها وتقريبها للناس، ليتخذ الناس رءوسًا على علم وإيمان حقيقى حتى لا يتسبب الفراغ فى انصراف الناس.
ليكن رمضان فرصة ذهبية لاستعادة الوعى الحقيقى، ليكن فرصة للتخلص من الأنانية وشح النفس وتدريبها على الشعور بمعاناة الفقير..فما أعظم التقرب إلى الله بالعطاء وتطهير قلوبنا مما علق بها من صدأ روحى تراكم عليها على مدى العام.. فهل يستوى من يدرك أن رمضان منحة ربانية وموسم للطاعات فجعل صيام نهاره فريضة وقيام ليله تطوعاً.. ومن حوله إلى شهر ترفيهى يسرف خلاله فى مباهج الدنيا وملذاتها غير عابيء بحرمته، ولا بما أراده الله لنا من وراء فريضة الصيام.
فهل نتخلص من سلبيات كثيراً ما نبهنا إليها مرات ومرات فى هذا المكان من سفه فى الإنفاق وإسراف وتبذير فى رمضان الذى يتضاعف فيه استهلاك المصريين للطعام والشراب ويزداد ضغط الناس فيه على السلع والخدمات والمرافق بصورة تثير الفزع لفرط ما نراه من تناقض صارخ بين تعاليم الإسلام وسلوكيات المسلمين.. فبينما يأمر القرآن أصحاب هذا الدين بالاعتدال والوسطية فى الأمور كلها بقوله «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا».. وهو الأمر الذى أعاد النبى التأكيد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه فإن كان لا محالة فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه».. تأتى سلوكيات المسلمين وأفعالهم مجافية لشرع الله، لتصبح أفعالنا فى وادٍ وتعاليم ديننا فى وادٍ آخر.
ليت الخطباء يبينون للناس أن إطعام الفقراء والمساكين واجب لكن البذخ مرفوض؛ فإفطار الصائم قد يكون بشربة ماء أو مزقة لبن أو تمرة.. وتوجيه فوائض أموالنا لسبل أكثر نفعاً كبناء مستشفى يعالج فيه الفقراء أو مدرسة تقدم لهم تعليما نافعاً أو مصنع يوفر فرص عمال للمتعطلين منهم.
لنسأل أنفسنا: هل صرنا بالصيام قلوباً رهيفة تتصدق وتتراحم وتقتصد فى الطعام والشراب.. أم أضحينا قلوباً غليظة تسرف وتبذر، وبطوناً تلتهم ما يصل إليها حتى صارت أوعية شر وبيتاً للداء والعلة وسبباً فى الخمول والتراخى والكسل وضعف الإنتاج حتى كثر الطلب على السلع والخدمات وارتفعت أسعارها ما يضطر الحكومة لضخ موارد إضافية لتلبية الاحتياجات المتزايدة فترهق ميزانية الدولة كما ترهق جيوب المواطنين.
فهل نغتنم الفرصة لتغيير سلوكياتنا للأفضل.. هل يبتسم الموظف فى وجه من يتعامل معه من الجمهور أو يزيل أسباب شكاواهم ويقدم لهم الخدمة بيسر.. هل يرحم كبارنا صغارنا وأغنياؤنا فقراءنا ومسئولونا مواطنينا.. وهل يوقر صغارنا كبارنا.. هل نصل أرحامنا التى تقطعت أكثر رغم ثورة الاتصالات وتطورها الهائل.. هل نخفف عن المنكوبين آلامهم ونقضى عن الغارمين ديونهم حتى لا يلقوا خلف القضبان بلا جريرة سوى العجز عن سداد ما عليهم.
المواطن مطالب بتغيير نفسه.. الأغنياء مطالبون بأداء واجبهم نحو الفقراء فيخرجون زكاة أموالهم التى فرضها الله عليهم.
فهل يتوقف التجار عن جشعهم ويرأفوا بحال البسطاء.. وهل يتصالح المتخاصمون.. هل نتوقف عن الكسل ولا نتذرع بالصوم عن تأخير أعمالنا أو التهرب من أدائها.. وتتعطل مصالح الخلق.. وننسى أن رمضان هو شهر الصبر والانتصار على النفس والأعداء والشهوات.. وما أكثر ما حققه المسلمون فيه من انتصارات تاريخية.. يبنغى أن نضاعف العطاء خصوصًا للمنكوبين من أهلنا فى غزة فإغاثتهم واجبة على كل دول العالم الإسلامى وليس هناك عذر للتخلف عن مد يد العون لهم لحقن دمائهم وإمدادهم بالمساعدات المبقية للحياة..!!