مضى عام 4202.. وحل عام 5202 حاملاً معه ملامح صورة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط.. نسجت تفاصيلها فرشاة الدم بيد الكيان الصهيونى.. ذلك الداء الخبيث الذى زرعته القوى الاستعمارية الغربية فى جسد الوطن العربى من أجل تقسيمه لدويلات وكانتونات صغيرة لا تقوى على الوحدة والمقاومة.
.. وما يحدث الآن على الساحة العربية منذ السابع من أكتوبر 3202 ما هو إلا حلقة جديدة من مسلسل تنفيذ مخطط تفكيك وتفتيت الوطن العربى.. فشرق أوسط جديد.. حلم إسرائيلى وهدف طالما سعت إلى تحقيقه بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية التى تمتلك رؤيتها الخاصة لتقسيم المنطقة تحت عنوان «الشرق الأوسط الكبير أو الجديد» تكون فيه القوة والتفوق العسكرى لإسرائيل.. والهيمنة والنفوذ الكامل لواشنطن.
وهكذا تبدو الصورة قريبة من المسعى الصهيو أمريكى.. بعد نجاح مهمتهم فى سوريا بسقوط النظام فيها وتدمير قدرات جيشها الوطنى واحتلال إسرائيل مساحات جديدة من الأراضى السورية إلى جانب الجولان واحتلال جبل الشيخ.. ومن قبلها الحرب على غزة وضرب حماس وإعادة احتلال القطاع.. وتدمير قدرات حزب الله فى جنوب لبنان ودفعه دفعاً نحو شمال الليطانى.
وبينما تحتفل إسرائيل بما تعتبره نجاحات عسكرية وسياسية فى فلسطين ولبنان وسوريا.. والسعى قدماً نحو رسم ملامح الشرق الأوسط الجديد كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ويؤكده تكراراً ومراراً.. لاتزال الدول العربية الفاعلة تراقب وتدرس المشهد لتتلمس خطواتها القادمة نحو البحث عن حل واحتواء الموقف وعدم التصعيد وإيقاف المخطط الإسرائيلى.. أما الولايات المتحدة الأمريكية فهى ماضية فى سعيها أيضاً نحو تقليص النفوذ الإيرانى والروسى فى المنطقة عبر تحالفات جديدة بما فى ذلك الدول التى خططت ونجحت فى إسقاط النظام السورى ودعم الساكن الجديد للقصر الرئاسى فى دمشق.. وبسط نفوذها لتشكيل النظام السورى الجديد بما يتوافق مع رؤيتها.
.. ولكن السؤال الآن.. هل الصراع على النفوذ فى الشرق الأوسط بات قريباً من نهايته باحتفال إسرائيل ورئيس حكومتها بنيامين نتنياهو على قمة جبل الشيخ.. وتصريح مستشار الأمن القومى الأمريكى «جيك سوليفان» خلال زيارته الأخيرة لتل أبيب بأن ميزان القوى فى الشرق الأوسط تغير بشكل كبير، مشيراً إلى أن إسرائيل أصبحت الآن أقوى بينما تراجع نفوذ إيران وأذرعها فى المنطقة.
.. ويبقى سؤال آخر حول ماذا كانت هذه التغيرات والتحولات الحالية والمتسارعة قابلة لأن تكون دائمة ومستمرة.. أم أنها مجرد مرحلة فى حلقة الصراعات الطويلة فى المنطقة فى ظل تنافس مستمر بين القوى الكبرى والإقليمية والمحلية على صياغة مستقبل جديد للشرق الأوسط.
الإجابة عن هذا السؤال وذاك موجودة فى تفاصيل الأحداث فى الماضى والحاضر وتسلسلها منذ أن بدأ التفكير فى تقسيم الوطن العربى لضرب وحدته.. لأن القوى الكبرى تعلم علم اليقين أن فى وحدته قوة تهددهم وتهدد نفوذهم.. كذلك لأسباب أخرى أكثر أهمية بالنسبة لهم.. أهمها بالطبع ما يتمتع به الوطن العربى من موقع جغرافى استراتيجى فريد يتوسط العالم ويمتد فى قارتى آسيا وأفريقيا.. جعله يسيطر على الخليج العربى ومنفذه عند «مضيق هرمز».. وعلى البحر الأحمر واتصاله بالبحر الأبيض المتوسط عن طريق «قناة السويس».. واتصاله بخليج عدن عن طريق «باب المندب».. ويشرف على السواحل الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط ومنفذه إلى المحيط الأطلسى عن طريق «مضيق جبل طارق».. وهى أسباب تجعل من يسيطر على الوطن العربى يسيطر أيضاً على العالم أجمع.
سايكس ـ بيكو
ولهذه الأسباب.. فإن ما جرى وما يحدث فى منطقتنا لا يمكن فصله عن مخطط صهيونى أمريكى غربى يستهدف المنطقة العربية كلها.. بدءاً من اتفاقية «سايكس ـ بيكو» التى تقاسمت فرنسا وبريطانيا بموجبها تركة الدولة العثمانية عام 6191 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.. وتجزئة الوطن العربى.. ساعدت على إنشاء وطن لليهود فى فلسطين.. وهى الاتفاقية التى مهدت لخريطة الشرق الأوسط الحالية وأرست الحدود القطرية للدول العربية.. ووضع مناطق توتر بين هذه الدول حتى تستمر النزاعات والخلافات الضيقة على حساب قضية الوحدة العربية.. بينما بلورت الولايات المتحدة الأمريكية رؤيتها لمستقبل المنطقة وفقاً لمخطط «برنارد لويس» لتفتيت العالم العربى والإسلامى على أساس مذهبى وطائفى.. «وبرنارد لويس لمن لا يعرفه هو مستشرق بريطانى الأصل يهودى الديانة» صهيونى الانتماء أمريكى الجنسية ويعد بحق منظراً لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية فى المنطقة العربية.
مخطط برنارد
وضع برنارد لويس فكرته لتفتيت الدول العربية والإسلامية مع وصوله لواشنطن فى عهد الرئيس الأمريكى جيمى كارتر فى الفترة من 7791 إلى 1891 ليكون مستشار وزارة الدفاع لشئون الشرق الأوسط.. ودفع الأتراك والأكراد والعرب والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضاً.. وهو أيضاً الذى ابتدع مبررات غزو العراق وأفغانستان.. وكان الكونجرس الأمريكى قد وافق بالإجماع على مشروع برنارد لويس فى جلسة سرية عام 3891.. ومن يومها تم تقنين هذا المشروع واعتماده وإدراجه فى ملفات السياسة الأمريكية الاستراتيجية المستقبلية.. وهى الاستراتيجية التى يتم تنفيذها بدقة وإصرار كلما سنحت الفرصة.. وتعديلها وفقاً للظروف والمتغيرات إذا لزم الأمر.
خير دليل على ذلك ما يجرى فى المنطقة.. بدءاً من احتلال العراق عام 3002.. وانفصال جنوب السودان عن شماله فى 1102 وهو مرشح للانقسام فى الوقت القريب إلى دولتين أخريين فى دارفور غرباً و»أم درمان» شرقاً.. مروراً بما حدث فى تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا عام 1102 بما عرف بـ «الربيع العربى».. انتهاء بالوضع الراهن بالمنطقة.
الفوضى الخلاقة
وامتداداً لمخطط برنارد تأتى نظرية «الفوضى الخلاقة» التى اعتمدتها الخارجية الأمريكية وأعلنتها كونداليزا رايس وزيرة الخارجية من خلال حديث لها فى صحيفة الواشنطن بوست فى عام 5002.. سيظل مشروع كونداليزا رايس أسوأ مشروع سياسى عرفته المنطقة لتشكيل شرق أوسط جديد.. مؤكدة اعتماد نظرية «الفوضى الخلاقة» كأولوية للسياسة الخارجية الأمريكية لنشر الديمقراطية فى العالم العربى.. حيث رأت أن دعم واشنطن للأنظمة القائمة فى المنطقة العربية هو ما أدى إلى هجمات 11 سبتمبر 1002 على برجى التجارة العالمى.
والمقصود بـ «الفوضى الخلاقة» كمصطلح سياسى هو تكون حالة سياسية مستقرة بعد مرحلة فوضى متعمدة الإحداث يقوم بها أشخاص بعينهم دون الكشف عن هويتهم داخل البلد المستهدف.. بهدف تعديل الأمور لصالحهم.. وتعد هذه النظرية كوسيلة لتنفيذ مخطط تقسيم المنطقة.. مرحلة من مراحل تنفيذ مخطط برنارد لويس وهو أول من دعا للفوضى الخلاقة فى الشرق الأوسط والعالم العربى والإسلامى.
وبدأت «الفوضى الخلاقة» وفقاً لرؤية كونداليزا رايس بالعراق من خلال الحرب الأهلية فى الفترة من 6002 إلى 8002.. وكان المسرح العراقى مهيأ لتنفيذ المخطط أعقاب الغزو الأمريكى للعراق عام 3002 والإطاحة بصدام حسين فى عهد الرئيس جورج دبليو بوش.
الربيع العربى
بعدها انطلقت ثورات الربيع العربى عام 1102 لنشر الفوضى الخلاقة.. تطورت فى بعض الدول إلى حروب أهلية دامية.. حيث انتشرت الفصائل والتنظيمات الإرهابية كوسيلة أمريكية لتنفيذ مخططها.
.. فى سوريا.. انتشرت تنظيمات وفصائل بمسميات عديدة، منها الجيش السورى الحر وجبهة النصرة والإخوان وتنظيما داعش والقاعدة وهيئة تحرير الشام التى تقود حالياً العملية السياسية فى سوريا بعد أن فقد الجيش السورى الوطنى 07% من قدراته خلال الحرب الأهلية وسقوط بشار الأسد.. وانسحاب الدعم الإيرانى والروسى من دمشق.
.. فى ليبيا يدور الصراع منذ الربيع العربى وحتى الآن بين 4 جماعات متناحرة من أجل السيطرة على ليبيا.. جماعة الإخوان الإرهابية وجهات إسلامية متحالفة باسم «فجر ليبيا».. ومناطق يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش».
وفى اليمن الحرب أهلية بين الحكومة اليمنية المعترف بها وجماعة الحوثى.
فالواقع الأليم الذى آل إليه العراق وسوريا واليمن وليبيا.. أثبت بما لا يدع مجالاً للشك الفشل الذريع لـ «فوضى كونداليزا رايس الخلاقة» فلم تتحول الفوضى إلى قوة خلاقة وفقاً لنظريتها المزعومة.. فالفوضى بقيت فوضى حيث طغت فكرة حماية العائلة الحاكمة والطائفة فى سوريا على مصلحة البلاد.. وفى اليمن وليبيا سيطرت فكرة العشائر على مصلحة الوطن.. كما أوجدت «الفوضى» الخلاقة على الطريقة الأمريكية طريقها فى تدمير البنية التحتية والاقتصادية لتلك الدول وتفكيك بنيتها من خلال شحن الثغرات الطائفية والعرقية والدينية.. وأصبحت واحة لكافة التيارات الإرهابية والمتطرفة.
وما يؤكد فشل نظرية «الفوضى الخلاقة».. هو أن الدول التى تملك «القوة الخلاقة» كما فى مصر والجزائر وتونس حافظت على بنيتها الاجتماعية والاقتصادية.. فجميعها اشتركت فى وجود جيش وطنى مستنير واع يحمى الشعب ويحافظ على الدستور ويرعى صالح دولة القانون ويخدم الحياة المدنية.
إستراتيجيات تل أبيب
نعود إلى المخططات ودراسات تقسيم الوطن العربى.. حيث لم يكن المخطط الأمريكى الوحيد.. فإسرائيل أيضًا وضعت استراتيجياتها الخاصة فى التعامل مع المنطقة بما يضمن تحقيق أهدافها التوسعية للوصول إلى إسرائيل الكبرى.. فى شرق أوسط جديد.. تلك الاستراتيجيات تقوم على دراسات صهيونية أعدها خبراء إسرائيليون.. فى مقدمتهم الدبلوماسى الإسرائيلى السابق «أوديد نيون» وعرفت بخطة «نيون» نشرتها مجلة «كيفوثيم» الإسرائيلية.. تحت عنوان «الخطة الصهيونية للشرق الأوسط».. وتؤكد خطة «نيون» أن أمن إسرائيل لا يتحقق بالتفوق العسكرى وحده.. ولكن بعدم السماح بوجود دول مركزية كبرى فى المنطقة والعمل على تفتيت ما هو قائم وتحويله إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس طائفية أو عرقية أو دينية.
مشروعات «البنتاجون»
على نفس الأهداف تلاقت مشروعات الموساد الإسرائيلى لتقسيم المنطقة أعدها رئيس الموساد السابق «رؤوبين شيلواح» الذى رأى أيضاً أن المصلحة الإسرائيلية تتطلب تفتيت واختراق العالم العربى.. ودراسة «شيلواح» هذه تقاطعت مع أخطر دراسة سربت من أوراق البنتاجون ونشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.. وكشفت عن وجود مخطط يقضى بتفتيت الدول العربية قبل عام 5102.. وتحتوى الدراسة على ما يقرب من 6371 صفحة فى تشخيص دقيق لحالة العالم العربى بما فى ذلك دول الخليج العربى.. وتحتوى هذه الأوراق على دراسات وتوصيات مدعومة بالتحليلات الميدانية التى قامت بها معاهد سياسية أمريكية ومراكز عسكرية أشرفت عليها أربع وحدات بحث تضم 120 خبيراً استراتيجياً وسياسياً وعسكرياً.. وشملت الدراسة عدداً من المقترحات والسيناريوهات المفترض تطبيقها على مراحل لتحقيق الهدف.. فالخطط الأمريكية وفقاً لأوراق «البنتاجون» تقضى بتقسيم خمس دول عربية إلى 41 دويلة منها تقسيم سوريا إلى ثلاث دول على خلفية الصراع المذهبى والدينى.. واحدة للطائفة العلوية.. ودولة للأكراد وانضمام سنة سوريا إلى المحافظات السنية فى العراق لتشكيل دولة «سنتان».. وهذا السيناريو الأقرب الآن للتنفيذ بعد سيطرة الفصائل الاسلامية والمعارضة على دمشق وسقوط النظام.
تفاصيل فى «اوراق» البنتاجون
أما مصر فوفقاً لمخططات «البنتاجون» فيتطلب العمل على تفتيت الجيش المصرى بإدخاله فى مواجهات مع شعبه والهدف اضعافه.. وفى العراق استغلال النعرات الطائفية التى غذاها الغزو الأمريكى.. وفقاً لتصور البنتاجون يتحد شمال العراق مع دولة الاكراد فى سوريا.. أما الوسط السنى العراقى فيتحد مع سنة سوريا فيما يبقى جنوب البلاد للشيعة.. وفى ليبيا شحن النعرات القبلية ودفعها للانقسام إلى ثلاث دويلات واحدة فى الشمال الغربى وعاصمتها طرابلس والثانية فى الشرق تتبع لبنغازى.. اضافة إلى دولة فزان التابعة «لسبها».. بينما يصبح اليمن يمنين شمالى واخر جنوبى على ان تجزأ شبه الجزيرة العربية بإحداث مواجهات إيرانية شيعية مع السعودية.
وضع «البنتاجون» فى تلك الدراسة 69 سيناريو لتطبيق خطة تقسيم المنطقة.. والتى وضعت تفتيت الجيوش الوطنية للدول كأولوية تمهيداً لاحتلال بلادها كخطوة لاحقة.
وأشارت الدراسة إلى اسماء وشخصيات سياسية وعسكرية ورجال اعمال ولوبيات محددة موثوقة من قبل الامريكان لها علاقات وطيدة مع شعوبها داخل الخليج ومصر وسوريا تحديداً.. تقوم بمساعدتها بطرق مباشرة وغير مباشرة لتحقيق الهدف.
الربيع العربى
ورأت دراسة «البنتاجون» مع انطلاق «الربيع العربى» فى دول الشرق الاوسط أن هذا التوقيت هو الانسب لتنفيذ السيناريوهات الموضوعة فى ظل الازمات الشديدة التى تشهد المنطقة وانشغال بعض الدول العربية فى اوضاعها الداخلية.
خصصت الدراسة 600 صفحة عن طرق تخدير الشعوب بشعارات الربيع العربى والثورات والغزو الإعلامى عن طريق اكثر من 38 قناة مرئية ومسموعة منها قنوات إقليمية.. بالاضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعى.. كما يعتمد المخطط فى تمويله على مصادر متعددة.
وإلى جانب المشروعين الامريكى والصهيونى هناك ايضاً المشروع الايرانى الذى يتلخص فى تشجيع الاقليات الشيعية على الاستقلال فى كانتونات صغيرة داخل دولهم العربية المسلمة واعلان تبعيتهم الكاملة للسلطة الايرانية وتشكيلهم وسائل ضغط على حكوماتهم لانتزاع مكاسب ايرانية من تلك الدول فضلا عن الدعوة إلى الانقلابات واشاعة الفوضى فى المنطقة العربية لتسهيل تنفيذ المخطط الايرانى للمنطقة فى ظل سياسة غض الطرف الامريكية المتبعة مع السلطة الإيرانية ولكن فى حدود ضمان الامن الاسرائيلى…. ايضاً ضمان عدم تطاول الحليف الشيعى على المصالح الامريكية فى المنطقة.. والاهم بالنسبة للمشروعين الامريكى والصهيونى استخدام المشروع الايرانى والعقيدة الشيعية للوصول إلى اهدافهما المنشودة.
وحدة العرب فى مواجهة التقسيم
وماذا فعلت الأمة العربية وكيف واجهت مخططات التقسيم ومقاومتها؟!
الحقيقة أن مشاريع تفتيت المنطقة مرت بمراحل عديدة.. وكانت وحدة الدول العربية و شعوبها حجر الزاوية والاساس فى افشال هذه المشاريع الاستعمارية.. وهو ما نرصده فى الجزء الثانى من القراءة التحليلية لتاريخ تلك المخططات وتفنيذها ومقاومة الدول العربية لها.
و«للحديث بقية»