فى البدء كان السؤال..وفى النهاية… كان النص.أما بينهما فكان ميثم الخزرجي، ساحرٌ من العراق، جاءنا برسائل لا تشبه سواها، بل هى رسائل كتبها من مشى فى ظلال المجاز، ومن تلبسته الكوابيس وتقمصته الأرواح، فكتب «بريد الآلهة».
هذه ليست مجموعة قصصية بالمعنى الكلاسيكي، بل هى بنية سردية متعددة الطبقات، تشتبك فيها الأسطورة، والمقدس مع المدنس، واللغة مع الخرس. نقرأ، فنفقد قدرتنا على الفصل بين الواقع والحلم، بين النص والذات، بين القارئ والشخصيات.
«كسر البنية التقليدية»
اعتمد الخزرجى على اللاخطية، وكسر التسلسل الزمنى للحدث، كأن كل قصة ليست فقط سرداً لحكاية، بل هى شظية من حكاية أكبر، حكاية الوجود ذاته. لا بداية محددة، لا نهاية قاطعة، بل دوائر سردية مغلقة على العجز، الخوف، العار، والرغبة.
نجد بنية الحدث المقطوع حاضرة بقوة، فالقصص تنتهى غالبًا بارتباك لا بحل، بانفجار رمزى أو تهويم أسطوري، كما فى قصة «بريد الآلهة»، حيث يتحول الباحث الأكاديمى إلى عبدٍ فى معبد، ويُحاكم لأنه أراد أن «يعرف». كأن المعرفة فى هذا النص خطايا وجودية، لا تُغتفر.
الكاتب يفكك الهُوية الذكورية بمنهج فرويدى و الخوف من أن يُسلب الإنسان دوره، سلطته، حتى فى أحقر أزقة المدينة.
«من أنكيدو إلى الجنيّة العابثة»
الكاتب يلعب بأساطير سومر وبابل كمن يعزف على وتر مقطوع. يحول الجنية إلى أرتميس شرقية، والنهر إلى أورفيوس عربي، والفتاة التى ابتلعها النهر إلى ضحية ونبية معًا.
فى قصة «بريد الآلهة»، يفتح بوابة نحو عالم أسطورى لا يشبه عوالم جي.آر.آر. تولكين، بل عالم عراقى خالص، مصنوع من الطين والماء، يحاكم البشر لأنهم حالمون. وكأن السؤال السردى المركزى هنا هو: هل يحقّ للعبد أن يطمح إلى مرتبة المعرفة؟
«لعبة الحقيقة والزيف»
الكاتب يتفنن فى تقويض المعني، فلا وجود لحقيقة مطلقة. ما يبدو «وصمة» فى قصة، قد يتحول إلى «كرامة» فى أخري. الجنية قد تكون اغتصبت الحمال.. أو لعلها حررته من قيد جسده. الفتاة التى ابتلعها النهر ربما ماتت.. وربما صارت إلهة.
كل تأويل يحمل نقيضه. وكل سردية تتقاطع مع غيرها فى مشهد الفوضى الكبير. ديكونستركشن كاملة للحقيقة، بل تنكر لوجودها أصلاً.
أما اللغة، فهى قصيدة طويلة مقنعة بقناع القصة. كلمات كأنها شظايا مرآة، تلمع فى القلب، وتجرح. سرد محمّل بالتوتر، مشحون بالعاطفة، مرصع بالاستعارات، مشبع بالصور التى تُحلق ثم تسقط على رأس القارئ دون إنذار.
إنه ليس كتابًا.. بل طقس تطهيري. كل من يقرأ «بريد الآلهة» يخرج منه محمولاً على نقالة من الأسئلة. يكتب الخزرجى بروح كاتب مسه الجن، وعقل ناقد قرأ طين العراق كما تقرأ الجدة تعاويذها قبل النوم.
فى عالمنا العربي، نحتاج نصوصاً مثل هذه: جريئة، شجاعة، خارجة من رحم المجهول، تنتمى للأدب كما ينتمى الماء للنهر… لا يسأل عن أصله، بل يسيل.