اعتاد الناس على الاحتفال بعيد الأم فى الحادى والعشرين من كل مارس فى كل عام، وهو اليوم الذى ستشرق شمسه خلال ساعات ليتبارى الأبناء فى تكريم أمهاتهم بهدايا وكلمات امتنان بفضل الأم ودورها فى حياة الأبناء..!!
هذا تقليد حسن، لكن الأحسن منه ألا نكتفى بيوم واحد للتعبير عن حبنا لأمهاتنا، سواءٌ كنّ على قيد الحياة أو رحلن إلى جوار ربهن العزيز الكريم..!!
مثل هذه المناسبة تعيدنا للسؤال: هل أمهات اليوم أدين رسالتهن فى تربية الأبناء على الوجه الأمثل الذى عشناه مع أمهات الزمن الجميل..!!
أمهات زمان رغم أمية كثير منهن فقد كن مدرسة تعلم أبناءها كل شيء، كن يمتلكن استقامة وفطرة سوية وقدرة على التربية بعطف وحنان واحتواء وإقناع وتبصير يتسلحن بالصبر والإرادة ووضوح الهدف والتسامح وإنكار الذات والإخلاص..وإذا أردت دليلاً على قولى فانظر فى نتاج أمهات الأمس ونتاج أمهات اليوم من الذرية والأبناء، فأى الأخلاق أقوم، أخلاق أجيال الأمس أم أخلاق أجيال اليوم..أخلاق الكتاب المطبوع والمدرسة التقليدية أم أخلاق رواد السوشيال ميديا والتكنولوجيا..؟!
ولا نحتاج لجهد كبير حتى ندرك ما بين أمهات اليوم وأمهات زمان من فارق شاسع لصالح الماضي؛ فأمهاتنا لم يتعلمن فى الجامعات لكنهن كن جامعات وحدهن.. أما أمهات اليوم فقد شغلتهن مواقع التواصل الاجتماعى ومطالب الحياة عن التربية الواجبة للأبناء على نحو يبنى جيل صحيح من الأبناء البررة، فكانت النتيجة أن شهدنا جيلاً لا يبالى بمكانة الأم ولا يصرف جهده لإرضائها والتودد إليها رغبة فى تحصيل ثواب البر بها والإحسان إليها أو حتى لرد جميلها ..عملاً بقول الله تعالى :» وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» {الإسراء:٣٢}
انتقل هذه التقليد إلى مصر عن طريق الأخوين مصطفى وعلى أمين مؤسسى صحيفة «أخبار اليوم»؛ إذ قامت إحدى الأمهات بزيارة مصطفى أمين فى مكتبه، وقالت إنها ترمَّلت وأولادها صغار، ولم تتزوج، وأوقفت حياتها عليهم، حتى تخرجوا فى الجامعة، وتزوجوا، واستقل كل واحد منهم بحياته، ولم يعودوا يزورونها إلا على فترات متباعدة؛ فما كان من مصطفى أمين إلا أن اقترح فى عموده الشهير «فكرة» تخصيص يوم للأم وكذلك فعل على أمين، ووافق أغلبية القراء على الفكرة وشاركوا فى اختيار يوم 21 مارس ليكون عيدًا للأم فى كل عام، واحتفلت مصر بأول عيد أم يوم 21 مارس 1956 ومن مصر انتقلت الفكرة إلى سائر البلاد العربية.
والسؤال: هل يكفى يوم واحدٌ لتكريم الأم، مصدر الحياة ونبع الحنان، ورمز العطاء والتضحية لأجل بنيها مهما تكن الآلام..؟!
تكريم الأمهات واجب والبر بهن أوجب، بل فريضة من يتخلف عنها يضع نفسه موضع الجحود والعقوق..
ما نراه اليوم من جحود كثير من الأبناء ربما يطرح سؤالًا مهماً: هل الأبناء الذين لا يحسنون لوالديهم خصوصًا فى سن كبيرة، هم، فى الأصل، نتاج التربية الخاطئة..؟!
قد يقول قائل إن من أحسن تربية ولده فى الصغر سيجنى بره عند الكبر..لكن ارتباط الأمرين ليس مطردًا؛ ذلك أن الوالد قد يحسن تربية ابنه، لكنه يصير عاقا حين يكبر، وكذا قد يسيء الوالد تربية ولده، ثم يكبر الولد ويهديه الله تعالي، فيصير بارا بوالده.
ما أصعب التربية فى زمن السوشيال ميديا، وما أصعب ما يعانيه الآباء والأمهات من مرارة ومعاناة فى تربية جيل يكاد اغترب فى الفضاء الإلكترونى الذى هو لغة عصرهم وهم أبناء زمانهم؛ الأمر الذى يضاعف صعوبات التربية الحقة لتخريج أجيال سوية قادرة على خوض غمار الحياة وتحدياتها وتحولاتها فائقة التطور التى ألقت ولا تزال بأعباء جسام على الوالدين ثم على المؤسسات المعنية بصناعة العقل والوجدان والأخلاق.
أغلب أمهات اليوم جرفهن تيار الفضاء الإلكترونى وشغلهن عن تربية الأبناء فاكتفين بإطعامهن وكسوتهن وتشاغلن عن تربيتهن بالمعنى الأعمق للتربية؛ حتى خرجت أجيال تخجل حين تسمع لغتهم فى الشارع وما ينطقونه من ألفاظ جارحة وخادشة للحياء تنبيء عن انحطاط وتردٍ أخلاقى خطير ولمَ لا وقد تركوا لفضاء إلكترونى بحوره غريقة فصاروا فريسة سهلة لصيادين خبثاء يصطادونهم تارة بألعاب إلكترونية مدمرة وتارة بشائعات ومعلومات مضللة ..ولا تستغرب إذا رأيتهم تطرب آذانهم لسماع أغنيات المهرجانات وضجيج الموسيقى التى بدلاً من أن تبنى الوجدان والروح تلوثهما بأصوات فجة ومعان رديئة منحطة.
مهمة أمهات السوشيال ميديا- إن جاز التعبير- أصعب؛ ذلك أن عليهن أن يعرفن أن أفضل الطرق هو التربية بالقدوة الحسنة ؛ ومن ثم فعليهن أولًا التخفف من هيمنة الفضاء الإلكترونى حتى يستطعن إقناع الجيل الجديد بترشيد التعامل مع التكنولوجيا، وحتى يجدن الوقت الكافى ليتفرغن للأبناء وهو ما يتطلب منهن جهداً جبارًا وموازنة دقيقة بين إعطاء الحرية للأبناء للتعامل مع التكنولوجيا وعدم الإغراق فيها.. وأن يراقبن حسابات أبنائهم على مواقع التواصل، وأن يكون النقاش سلاحهن فى إقناعهم بالمسموح وغير المسموح للتوفيق بين تعاليم الدين والقيم والأعراف ومستجدات العصر.
أن عيد الأم مناسبة طيبة للتذكير بأفضال كل أم لكنه ينبغى ألا يقتصر على يوم واحد؛ بل ينبغى لكل ابن أن يبذل أقصى ما يستطيع لإرضاء أمه والبر بها إن أراد أن يرد لها الجميل، أو يدخل فيها الجنة جزاء بره وإحسانه إليها..فاغتنموا فرصة وجود الأم فى حياتكم فهى نعمة لا يشعر بها إلا من فقدها.
أمى فعلت أقصى ما يمكنها لرعايتى وتمكينى من النجاح فى الحياة، حتى تخرجت فى الجامعة وعملت فى الصحافة..كانت نعم القدوة والعطاء والمشورة والاحتواء وتدبير احتياجات بيتنا براتب بسيط كان يتقاضاه والدي….رحم الله أمى وأبى وأسكنهما فسيح الجنات فقد رحلا قبل أن أوفيهما ولو جزءًا يسيرًا من حقهما عليَّ..!!