لم تعد الخطب الرنانة فى الساحات والميادين والتى كانت تلهب مشاعر الجماهير هى التى تصنع السياسيين والقادة والزعماء، ولم تعد النظريات المنمقة التى تستحوذ على مفاتيح العقل هى التى تنتج وتفرز الساسة والملهمين، الدنيا تغيرت وتبدلت وصارت الأمور مغايرة تمامًا للصور الذهنية التقليدية فى عوالم السياسة وإدارة المجتمعات، الآن باتت القصص فى مبدأها ومنتهاها مرتبطة بجيوب الناس وحافظات نقودهم وما تحويها، الناس تدخل إلى السوبر ماركت وتنظر إلى السلع والمنتجات على الرفوف ثم تقرر احتياجاتها من حيث الكميات والأنواع والماركات وتضع كل هذا فى السلة وتندفع إلى حيث لحظة الحساب، ومع تماس جهاز قراءة الباركود بالسلعة يظهر السعر أمام المواطن أو المستهلك، هنا فقط تظهر مؤشرات الرضا أو الغضب على وجوه الناس، وحاصل جمع معدلات هذه المشاعر تأتى فى لحظة إبراز الفيزا أو النقود لدفع المبلغ الإجمالى لما تم تجميعه من السوبر ماركت، ومن أول خطوات المواطن خارج السوبر ماركت يدور فى رأسه عدة أمور سريعة، هل اشترى كل ما يريده ووجده بسهولة؟ هل كانت الأسعار مناسبة ومعقولة؟ هل استطاع دفع المبلغ المطلوب منه دون الاستغناء عن بعض السلع فى السلة؟ هل المبلغ المخصوم من الفيزا عادى وكان متوقعًا؟ كل هذه الاسئلة والإجابات تأتى فى لحظات سريعة من لحظة الخروج من السوبر ماركت إلى لحظة ركوب السيارة أو وسيلة المواصلات، فإذا كانت النتيجة فى مجملها حالة رضا فإن الأمر يكون أبلغ من أى مقال وخطاب ولن يفكر المواطن فى ابعد من سلة السلع، وإذا كان الأمر عكس ذلك فان النتيجة ستكون حالة سخط ويضيع معها كل المنجزات، المواطن مغرق فى احتياجاته اليومية ويرى ان التحديات التى نتحدث عنها والإقليم المشتعل الذى نحاول إطفاءه كلها أمور ليست مهمة بالنسبة له، فكل ما يهمه هو لحظة الوقوف أمام الكاشير لدفع فاتورة المشتروات، الإقليم وحرائقه والتحديات الجيوسياسية أمور تضيع ملامحها على وقع سعر علبة الزبادى وكرتونة البيض، الخلاصة ان الأحزاب وأنشطتها السياسية والمنظمات الأهلية وقادة الرأى والفكر عليهم ان يعيدوا دراسة نظرياتهم السياسية وايديولوجياتهم الفكرية فى المكان الصحيح المخصص لممارسة السياسة الحقيقية وهو السوبر ماركت، وجدت هذا المشهد بوضوح فى الولايات المتحدة حينما كنت فى واشنطن لحضور قمة الناتو، نفس الشيء وجدته فى موسكو أثناء حضورى قمة بريكس، كنت أراقب وجوه الناس داخل السوبر ماركت قبل الدخول وبعد الخروج وأثناء التجول داخل المتجر، فى امريكا بلد الوفرة كما فى روسيا المفروض عليها العقوبات، سلوك الناس هو سلوك الناس، فالساسة يحملون هموما فوق رءوسهم ويظنون ان الناس تشاركهم بعضًا من هذه الهموم، لكن الواقع ليس كما يبدو أمامنا، هنا علينا ان نغير من نظرياتنا السياسية التى تستهدف مخاطبة العقول فقط، فهناك أشياء كثيرة أخرى تحتاج أيضًا من يجيد الحديث معها وهو حديث بالتأكيد صعب، فأحاديث العقل اسهل كثيرا من احاديث البطن مثلا، بيد أن الصورة تبدو قاتمة عندما تراهن على العقول فقط دون النظر إلى البطون، وهذا أمر يحتاج إلى بحث ودراسة.
***