كان هنرى كسينجر مستشار الأمن القومى الأمريكى إبان حكم الرئيس نيكسون فى ستينيات القرن الماضى قبل ان يصبح وزيرا الخارجية ويلقب بثعلبها العجوز ، ارتبط اسمه بالمفاوضات السرية التى جرت فى باريس بين الوفدين الأمريكى والفيتنامى الشمالى أثناء حرب فيتنام التى استمرّت عشر سنوات كاملة وظهرت فى الادبيات السياسية الأمريكية منذ هذا التاريخ ، وهى ليست نظرية بالمعنى الاصطلاحى والفلسفى المنضبط ولكنها أكدت على المستوى العملى بأنها نوع من « سوء التقدير» ويقال ان الرئيس نيكسون قال لهارى روبنز هالديمان والذى كان كبير موظفى البيت الأبيض أطلق عليها نظرية «الرجل المجنون».
وفى كتابه «حرب العشرة آلاف يوم» حيث أورد الكاتب الصحفى الكندى مايكل ماكلير أثناء سرده لقصة الحرب الفيتنامية وملابستها السياسية ذلك المسمى «الرجل المجنون» كان هنرى كسينجر يرأس وفد بلاده بينما كان عضو المكتب السياسى للحزب الشيوعى الحاكم فى فيتنام الشمالية لى دوك ثو وعندما تحتدم المناقشات وتصل المساجلات التفاوضية إلى نقطة حرجة ويصل تشدد الجانب الفيتنامى إلى درجة شديدة التصلب ، يبدأ الثعلب كسينجر فى استخدام تلك النظرية ، فيطالب اولاً بتعليق المفاوضات برمتها ، ثم يطلب الجلوس منفردا مع نظيره الفيتنامى لى دوك تو ، ويقول له أنا أتفهم موقفكم تماما وربما يكون هو الموقف الصحيح فى ظروف عادية ، لكن أصدقك القول يا صديقى نحن فى مأزق ، نعم أنا وانت فى مأزق حقيقي.
>>>
يا عزيزى اود ان تعرف ساكن البيت الأبيض « يقصد الرئيس نيكسون « رجل مجنون ، نعم مجنون حقا ولا يمكن التنبؤ بردود افعاله فى لحظات الغضب ، ولولا أننى أقوم بتهدئته بين الحين والآخر لاتخذ قراره بتسوية فيتنام كلها بالأرض ، ثم يواصل كسينجر حديثه حقيقة لا اعرف ماذا افعل الآن ، ويدير وجه عن الرجل مبديا حيرة وتعاطفا وقلقا وهو صامت، ثم يستدير وينظر فى عين الرجل قائلا له ، الان المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود وتجمدت ، وعندما يصل الخبر إلى البيت الأبيض سوف يصاب الرجل ،بحالة جنون متوقعة وسوف يصدر اوامره بقصف جميع المدن الفيتنامية مجددا من الجو ولا استبعد قيامه بعمل اكثر خطورة من ذلك فهو – كما تعلم – شخص لا يمكن التنبؤ به.
عزيزى دوك إننى أنصحكم بقدر من المرونة وقدر من التنازلات حتى نستطيع إنجاز مهمتنا دون استثارة الرجل والضغط على نقاط غضبه وجنونه ، هذه نصيحتى المخلصة والأمر لكم ، لكن المدهش والمثير للانتباه ان الفيتناميين لم يشتروا القصة من الأمريكان ، كان لى دوك ثو يرى ان ما يحاول كسينجر تسويقه عن جموح وجنون نيكسون ما هو إلا محاولة لاخافتنا ومتفق عليها سلفا بينهما وبأن كل ما يجرى توزيع ادوار ، كان الفيتناميون يرون ان امريكا غير قادرة على استخدام النووى نظرا لوجود ردع نووى سوفيتى مماثل يمنع امريكا من هذه الخطوة بالإضافة إلى المظاهرات العارمة فى الشارع الأمريكى ضد الحرب ، استمرّت المفاوضات من 1968 إلى 1973 وقد منحت حائرة نوبل للسلام مناصفة بين كسينجر وثو لكن الأخير رفض استلامها.
وسقطت نظرية الرجل المجنون، لكن ميكافيللى كان يقول «من الحكمة محاكاة الجنون» واليوم نرى عودة «نظرية الرجل المجنون» تعود لتسود وتتحكم فى العالم من خلال قرارات وتصريحات الرئيس الأمريكى ترامب ، والذى قرر احتلال كندا وبنما وجزيرة جرينلاند وفرض ضرائب جمركية على الصين والمكسيك وكندا والاتحاد الأوروبى ومطالبة أوكرانيا بتسليمه المعادن والثروات التى تملكها ومطالبة روسيا بوقف الحرب فورا والحديث عن ضم الضفة الغربية لإسرائيل وتهجير سكان غزة خارج القطاع تبدو كل هذه القرارات امام الكثيرين نوعا من الجنون والشطط، لكن هذا غير صحيح ، فالرجل يسلك نفس مسلك الرئيس نيكسون فى رسم صورة الرجل المجنون امام من يفاوضه للحصول على أكبر قدر من المكاسب.
>>>
فعلى سبيل المثال انتهت تهديداته لبنما بالاستيلاء على قناة بنما إلى الحصول على تأكيدات بنمية بإخراج الصين من القناة والخروج من اتفاقية طريق الحرير وانتهت تهديداته المكسيك إلى التفاهم حول نشر عشرة آلاف جندى مكسيكى على طول الحدود لمنع الهجرة غير المشروعة وتجارة المخدرات وتم تأجيل فرض الضرائب لحين التوصل إلى اتفاق ، وفى كولومبيا تم نفس الاتفاق، إذن علينا ان ننتبه إلى تلك القرارات على انها طريقة للضغط على الخصوم او الحلفاء لكنها قديمة جدا.