بينما العالم كله «تقريباً» يترقب تولى الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب «زمام الأمور» فى البيت الأبيض «فى العشرين من يناير المقبل» ورؤية كيفية تعامل الولايات المتحدة فى ظل «الإدارة الجديدة» مع القضايا الملتهبة سواء على المستوى الدولى أو مستوى منطقة الشرق الأوسط ذات الطبيعة شديدة الأهمية والخصوصية..بينما العالم يترقب هذا الحدث خاصة مع صيحات التهديد والوعيد التى أطلقها ترامب قبل أيام بتفجير الجحيم فى الشرق الأوسط فى حال عدم الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية قبل «يوم التنصيب».. وقع بين يدى «كتاب» أرى أنه يتضمن أفضل ما يمكن تقديمه إلى الرئيس ترامب وإدارته الجديدة قبل الإبحار فى دهاليز الولاية الرئاسية الجديدة.. الكتاب الذى أتحدث عنه وأسرد رسائله اليوم إن شاء الله سبحانه وتعالي.. هذا الكتاب يتضمن العديد من النصائح القيمة التى يمكن لترامب وإدارته الاستفادة منها استفادة كبيرة.. لأن موجه النصائح هنا ليس شخصية «تقليدية» إنما شخصية من طراز خاص.. إنه الرئيس الأمريكى الأسبق والسياسى المخضرم والحائز على جائزة نوبل للسلام «جيمى كارتر».. وضع نصائحه القيمة هذه فى كتاب أصدره قبل ثمانية عشر عاما «2006» واختار له عنوان «فلسطين.. سلام لا تفرقة عنصرية».. وقد قام بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية عادل نجيب بشري.
جيمى كارتر.. الرئيس التاسع والثلاثون فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية «1977-1981».. وهو الرئيس الأمريكى الذى «أنجز» أول اتفاق سلام «عربى – إسرائيلي».. اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل فى عام «1979» .. وله من الخبرة السياسية.. كما قلت.. ما يستوجب على أى ساكن للبيت الأبيض من بعده أن يستمع لكل ما يقوله ويتأمله جيدا ويأخذ به.. حتى لو كان هذا الكلام أو هذا القول قد صدر قبل ثمانية عشر عاما.
يتحدث جيمى كارتر فى «فلسطين سلام لا تفرقة عنصرية» عن العديد من القضايا والتحديات المهمة المتعلقة بالقضية الفلسطينية ودور الولايات المتحدة الأمريكية فى ذلك وانعكاس هذا على الأمن والسلم الدوليين.. تحدث كارتر عن زياراته لفلسطين ولقاءاته بالمسئولين الإسرائيليين وانطباعاته عن السلام.. كما تحدث عن زيارات قام بها إلى بعض دول المنطقة وكانت مصر من بينها.. وكان واضحا أنه يحمل تقديراً خاصا للرئيس الراحل محمد أنور السادات.. تناول جيمى كارتر فى هذا الكتاب رؤيته حول إمكانية تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. كذلك تقييم ما قام به كل من الرؤساء رونالد ريجان وجورج بوش الأب وجورج بوش الابن وبيل كلينتون فى سبيل تحقيق السلام فى «الشرق الأوسط».. كما تطرق إلى بعض القضايا الأخرى ذات الصلة بمفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل.. وعندما راح جيمى كارتر يستخلص «بخبرة السنين» أهم شيء يمكن أن يقوله أو يخرج به من هذا «المشوار الطويل» فإنه ذكر «بالحرف الواحد» أن السلام لن يأتى لإسرائيل والشرق الأوسط إلا إذا استجابت إسرائيل للقانون الدولي.. وذلك يستوجب على الولايات المتحدة ألا تتسامح أو تتستر على استيلاء الإسرائيليين على الأراضى الفلسطينية لأن تسامح «واشنطن» مع «تل أبيب» سيزيد من حجم الكراهية والعداء ضد أمريكا.. وبشكل عام قال كارتر إن ما تقوم به إسرائيل من ضم لأراضى الفلسطينيين سيتسبب فى مأساة مستقبلية ليس للفلسطينيين فحسب بل وللإسرائيليين والعالم.. وشدد كارتر علي أنه من أجل منع هذه الكارثة «التى ستطال آثارها الجميع» يجب على «واشنطن» أن تقف إلى جانب السلام وألا تسمح لنظام «الفصل العنصري» بأن ينتصر.
يبدأ الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر كتابه بفصل عن «إمكانيات تحقيق السلام».. وخلال الإجابة عن السؤال الذى طرحه يبدى كارتر تفاؤله «المشروط».. ويستهل كلامه قائلا: إن أحد أهم أهدافى فى الحياة منذ أن بدأت العمل فى السياسة وحتى بعد أن تقاعدت عقب الانتخابات الرئاسية فى عام «1980» هى التأكيد على أن يكون هناك سلام دائم بين إسرائيل وجيرانها فى الشرق الأوسط..وهناك الكثيرون الذين يشتركون معى فى نفس الحلم..
ويضيف كارتر: إن الشرق الأوسط هو أكثر مناطق العالم حساسية .وقضية الشرق الأوسط هى قضية شديدة التعقيد وذات أصول سياسية ودينية قديمة وحديثة.. ويشير كارتر إلى أن معوقات عملية السلام فى الشرق الأوسط كانت نتيجة لرغبة بعض الإسرائيليين فى الاحتفاظ بأراض فلسطينية ..ويقول: إنه يجب على الولايات المتحدة أن تكون شريكا موثوقاً به وعادلاً ومتسقاً وذا رأى ثابت واتجاه واضح ومتحمس.. ولابد أن تكون شريكا «لكلا الطرفين» وأن يكون دور «واشنطن» هو دور الوسيط الأمين المحايد.
خلال تناوله لبعض «كواليس» مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل.. قال كارتر: كان هناك تنافر واضح بين شخصية الرئيس السادات وشخصية رئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجن.. وأنه بعد حدوث عدد من «الصدامات» رأيت أنه لايجب أن تكون هناك مفاوضات مباشرة بينهما وكنت أتفاوض مع كل واحد منهما على حدة.. ويضيف كارتر: كان مناحم بيجن يفحص كل كلمة فى اتفاق السلام بدقة شديدة وكان يستعين بالموسوعات والقواميس.. وبالنسبة للرئيس السادات «والكلام لايزال على لسان كارتر» فإنه كان يرغب فى الحصول على اتفاق «سلام شامل».. كانت طلبات الرئيس السادات تتضمن ترك الإسرائيليين سيناء وأن يكون هناك اتفاق شامل يتضمن باقى الأراضى المحتلة وحقوق الفلسطينيين وتعهد إسرائيل بأن تلجأ إلى الوسائل السلمية فى حل أى خلافات مستقبلية مع جيرانها.. ويؤكد كارتر: إنه لعدة مرات كان كل من السادات وبيجن مستعدا لإنهاء المفاوضات والعودة إلى بلاده.. لكننا تمكنا أخيرا من الوصول إلى إتفاقية «كامب ديفيد».. تجدر الاشارة هنا إلى أنه عندما تحدث الرئيس كارتر عن مصر وزيارته إليها قال: إن أسرتى كانت تستمتع دائما بزيارة مصر خاصة الرحلات النيلية التى نشاهد من خلالها الريف المصري.. كذلك زيارة المناطق الأثرية.. وقد خص كارتر الرئيس محمد أنور السادات بقوله عنه: إنه خلال فترة رئاستى للولايات المتحدة تقابلت مع ما يقرب من مائة رئيس دولة لكن السادات كان أفضلهم وأقربهم إليّ.
تحدث كارتر فى كتابه أيضا عما وصفه بأنه تغير طرأ على المجتمع الإسرائيلى والسياسة الإسرائيلية وذلك عند مقارنته بين ما شاهده خلال زيارته الأولى إلى إسرائيل فى عام 1973 عندما كان حاكما لولاية جورجيا.. وبين ما شاهده فى زيارته لها 1983 خلال فترة رئاسة «خلفه» الرئيس رونالد ريجان.. يقول جيمى كارتر فى ذلك: بعد شهور قليلة من تركى للبيت الأبيض قام الإسرائيليون بهجمة جوية على العراق لتدمير مفاعلها النووى وأعلنوا ضمهم لمرتفعات الجولان كما تزايدت سرعة وتيرة جهودهم فى بناء المستوطنات الإسرائيلية فى جميع أنحاء الضفة الغربية وغزة.. وانقسم الإسرائيليون «كما يقول كارتر» حول مدى حكمة هذه السياسة «العسكرية».. وفى عام «1982» قام الإسرائيليون بدخول لبنان وخلال عام تم ترحيل قادة منظمة التحرير الفلسطينية من هناك ..ويضيف كارتر: إن زيارتى لإسرائيل بعد مغادرتى البيت الأبيض كشفت عن حجم التغيرات الكبيرة فى المواقف والظروف الذى طرأ منذ زيارتى التى قمت بها منذ عشر سنوات «1973» وكذلك الزيارة التى قمت بها كرئيس في السنوات الأخيرة من عقد «السبعينيات».. ويستطرد قائلا: فعندما وصلت أنا وزوجتى روزالين إلى القدس فى عام «1983» .. كرئيس سابق.. قمنا بزيارة النصب التذكارى لضحايا المحرقة النازية حيث استمعنا للكثير من العرفان بالجميل لأن مفاوضات «كامب ديفيد» أدت إلى السلام مع مصر.
ويواصل كارتر:بعد زيارتنا للنصب التذكارى للمحرقة إلتقيت رئيس الوزراء مناحم بيجن وأعربت له عن خيبة أملى بسبب عدم احترامه للالتزام الذى تعهد به خلال مفاوضات السلام بسحب القوات الإسرائيلية والامتناع عن بناء مستوطنات فى الضفة الغربية وكذلك عدم استعداده لمنح الفلسطينيين أى درجة مقبولة من الاستقلال فى الأراضى المحتلة.. وقمت بحث بيجن بتوضيح موقف إسرائيل للمصريين والأردنيين.. ويقول كارتر: إننى توقفت للحظة متوقعا من بيجن أن يقدم تفسيراته القوية لسياسة إسرائيل لكنه رد بلا مبالاة وبكلمات قليلة روتينية مظهرا بوضوح أن المناقشة قد انتهت.
ويستكمل كارتر رواية ما شاهده خلال هذه الزيارة: لقد أمضيت أنا وزوجتى روزالين عدة أيام فى إسرائيل والأراضى المحتلة وتقابلت مع بعض القادة وعامة المواطنين.. لقد كان كل شيء مختلفا بشدة عن المكان الذى زرته منذ عشر سنوات.. لقد تلاشى الشعور بالوحدة والتآلف بين المواطنين اليهود واختفت تلك الثقة التى كانت «قبل حرب «1973».. وعلى الرغم من أنه فى زيارة «1983» كان الإسرائيليون منتصرين عسكريا فى لبنان إلا أن الكثيرين من الإسرائيليين كانوا شديدى القلق من أن شعلة النصر قد تحولت إلى رماد وأن التفوق العسكرى الذى كان ضروريا للدفاع عن الدولة لم يعد كافيا لإسرائيل حتى تتمكن من إخضاع جيرانها.. فى هذه الزيارة كان التوتر واضحا بين مختلف الفئات فى إسرائيل.. يشير كارتر بوضوح هنا إلى أنه وجد الإسرائيليين هذه المرة أكثر تصميما على الاستيلاء وضم الأراضى الفلسطينية.
ومثلما طرح جيمى كارتر فى بداية كتابه سؤالا عن إمكانية تحقيق السلام فى الشرق الأوسط.. فإنه بعدما انتهى من استعراض رؤيته وتجاربه راح يستنتج «خلاصة» كل هذا ووضعها فى عدد من النقاط.. يقول كارتر فى ذلك: منذ معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل والتى تم توقيعها فى عام «1979» فإنه تمت إراقة الكثير من الدماء بلا داع وفشلت المحاولات المتكررة فى التفاوض على السلام بين إسرائيل وجيرانها.. ويضيف: إن هناك عقبتين متشابكتين فى طريق السلام الدائم فى الشرق الأوسط.. العقبة الأولى هى إيمان بعض الإسرائيليين بأن لهم الحق فى الاستيلاء على أراضى الفلسطينيين واستعمارها ومحاولاتهم تبرير الاضطهاد المتزايد للفلسطينيين والجهود المستمرة التى تبذل لاخضاعهم.. والعقبة الثانية «من وجهة نظر كارتر» هو ما يصفه ببعض ردود الأفعال التى تأتى من الفلسطينيين ضد الإسرائيليين.
ويقول كارتر: إن السياسة الثابتة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية منذ نشأة إسرائيل هى أن الحدود يجب أن تتفق مع ما هو سائد منذ عام «1949» وحتى عام «1967 » وهو ما تم النص عليه فى قرار الأمم المتحدة رقم 242 والذى تمت الموافقة عليه بالاجماع ويفرض على إسرائيل الانسحاب من الأراضى المحتلة وتم تأكيده من خلال موافقة قادة إسرائيل على اتفاقيات كامب ديفيد واتفاق أوسلو فى عام «1993» والذى تسلموا على أساسه جائزة نوبل للسلام.. إن هذين التعهدين تم التصديق عليهما من الحكومة الإسرائيلية.
ويضيف كارتر: إن هناك عاملين آخرين متشابكين ساهما فى التعجيل بدورة العنف فى المنطقة.. وهما قبول الأفعال الإسرائيلية غير الشرعية والتسامح معها من قبل أعضاء الكونجرس الأمريكى وساكن البيت الأبيض والذين اتصفوا بالاستسلام خلال السنوات الأخيرة.. والاحترام الخاضع من قبل القادة الدوليين الذين يسمحون لهذه السياسة الأمريكية غير الرسمية أن تنتصر.
واختتم الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر «خلاصته» بقوله: إن الولايات المتحدة الأمريكية تبدد هيبتها واحترامها الدولى وسمعتها وتزيد من كثافة العداء لها عن طريق تسامحها وتسترها على أعمال إسرائيل فى الاستيلاء على أراضى الفلسطينيين واستعمارها.
بالتأكيد.. حدث الكثير فيما يتعلق بالصراع العربى – الإسرائيلى منذ أن أصدر جيمى كارتر كتابه هذا فى عام «2006» وحتى الآن.. وقائع وجرائم وكوارث غير مسبوقة تأتى على رأسها حرب الإبادة المتواصلة التى تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين فى غزة والضفة الغربية..لكن على الرغم من «الفارق الزمني» فإننى أرى أن ما جاء فى كتاب «فلسطين.. سلام لا تفرقة عنصرية» أفضل ما يمكن تقديمه إلى الرئيس المنتخب دونالد ترامب وهو على بعد خطوات من بداية «رئاسته الثانية» للولايات المتحدة الأمريكية.