فتح مكة المكرمة حدث عظيم من الوقائع الفاصلة فى تاريخ الإسلام التى أعز الله فيها دينه وأذل أعداءه، فبهذا الفتح خسر الكفر أهم معاقله وحماته فى بلاد العرب، وبعده دخل الناس فى دين الله أفواجا وأصبحت مكة قلعة منيعة لدين التوحيد والهداية.
التاريخ
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة بعشَرة آلاف من المسلمين متَّجهًا لفتح مكة، فى أواخر العشر الأول من شهر رمضان المبارك، من السنة الثامنة للهجرة، ولحق به ألفان من القبائل المسلمة حول المدينة، فصار قوام الجيش اثنى عشر ألفًا، ودخل مكة فاتحًا صباحًا فى أواخر العشر الثانى من الشهر نفسه.
عطاء النصر
حقٌق الله فى هذا الخروج الوَعْدَ الذى كان وعَدَ رسولَه بأن يدخل هو المسلمون معه المسجد الحرام آمنين مطمئنِّين لا يخافون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أصحابه: ستأتون البيت وتطوفون به آمنين محلِّقين رؤوسكم ومقصرين لا تَخافون، بناءً على رؤيا حقٍّ أراه الله إيَّاها، ورؤيا الأنبياء كلها حق.
الأسباب الداعية
كانت حالة الحرب قائمة بين المسلمين ومشركى مكَّة بأسباب من المشركين أنفسهم، ثم جرى بين الفريقين صلحُ الحديبية، واشتمل هذا الصلح على بنود تم الاتفاق عليها، ومن جملة تلك البنود من أحب أن يدخل فى عهد قريش وعقدهم دخل فيه، ولمَّا علم النَّاس بهذا البند من بنود الصلح أسرعتْ خزاعة فقالوا: نحن فى عقد محمد وعهده، وأسرع بنو بكر فدخلوا فى عهد قريش، وكان بين خزاعة وبين بكر ضغائن ودماء قديمة، فقام بعض بنى بكر بالعدوان على خزاعة وأعانتهم قريش بالسلاح والرجال خفية، وظاهروهم على خزاعة، وكان على الرسول والمسلمين أن ينصروا خزاعة، وينتَقِمُوا لها من قريش وبنى بكر.
الرسول ورأى أبى بكر وعمر
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحدى الحجرات المخصصة لنسائه، فدعا إليه أبو بكر فجلس يحدثه طويلا، ثُمَّ أمره فجلسَ عن يَمينه، ثم دعا عمر فرفع عُمَرُ صوتَه قائلا: يا رسول الله، هم رَأْسُ الكُفْر، هم الذين زعموا أنَّك ساحرٌ، وأنَّك كاهن، وأنَّك كذَّاب، فأمره فجلس عن شِمالِه ثُمّ أقبل بوجهه ناحية عمر قائلا: إنَّ نوحًا كان أشدَّ فى الله تعالى من الحجَر، وإنَّ الأمر أمر عمر، فتجهَّزوا، وتعاونوا.
التجهز للخروج
حين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكَّة أمر المسلمين أن يتجهَّزوا للخروج، والتجأ إلى الله داعيًا: اللَّهُمَّ خذِ العُيُون والأخبار عن قُرَيْشٍ، حتَّى نبغَتَها فى بلادِها وأمر المسلمين بالكتمان.
كتاب حاطب
كتب حاطب بن أبى بلتعة كتابًا إلى قريش، يخبرهم فيه بالذى عزم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أعطاه امرأة، ونزل الوحى يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع حاطب، فبعث من يُحضرها، وعندما استدعى رسول الله «حاطب» قال له: يا رسول الله لا تَعْجَلْ عليَّ، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا إنه قد صدقكم ولا تقولوا له إلا خيرًا»، فقال عمر: يا رسول الله، دعنى أضرب عُنُقَه، فإنَّ الرَّجُل قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يُدْرِيكَ يا عُمَر، لعلَّ الله قدِ اطَّلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعمَلُوا ما شئتم قد غفرت لكم.
تحرك الجيش لمكة
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتجهَّزوا للخروج، فلمَّا أتَمُّوا جهازهم، تجمَّع له منهم عشرة آلاف، من مهاجرين وأنصار، بأدواتهم الحربية، ومؤنهم، ومراكبهم من الخيل والإبل، ثم أرسل إلى مَن كان من القبائل المسلمة حول المدينة يدعوهم للخروج، فتلاحق منهم بالجيش ألفان، من قبائل أسلم، ومزينة، وجهينة، وغفار، وسليم، وكان خروجه فى شهر رمضان، والناس صائمون، ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم بجيش المسلمين إلى (الجحفة) لقيه عمه العباس بن عبدالمطلب معلنًا إسلامَه، ومهاجِرًا بعياله إلى المدينة، ولما وجد الرَّسول متوجِّهًا لغزو مكة فعاد معه، وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم – المسيرَ بِجَيْشِه شطْرَ مكَّة وأهل مكَّة لا يعلمون شيئًا، لقد عمَّى الله عنهُمُ الأخبار.
دخول الرسول مكة
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا متواضعًا لله، برًّا رحيمًا، جوادًا كريمًا، سمحًا رؤوفًا، عفوًّا عطوفًا، وعهد إلى أمراء الجيش: أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا مَنْ قاتلهم، ظل رسول الله يقرأ سورة (الفتح) ويردد ويعيد، ودخل من دخل من أهل مكة دورَهم وأغلقوا أبوابَهم ليأمنوا، ودخل من دخل منهم المسجد، ولم يواجه المسلمون جيشًا مُحاربًا من أهل مكة. ونَهض الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه خَلْقٌ كثير من المهاجرين والأنصار، قد أحاطوا به، ودخل المسجد الحرام، ومعهم جُمْهُور ممن أسلم من أهل مكة يومئذ، وممن لم يسلم، فأقبل الرسول إلى الكعبة، فاستلم الحجر الأسود، ثم طاف بالبيت على راحلته سبعًا، وكان فى يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعن كلا منها بقوسه، ويقول: «وقل جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا»، فلمَّا أتَمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم طوافه، دعا «عثمان بن طلحة» فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بفتح بابها ففتحه له، فدخلها، ثم أغلق عليه باب الكعبة ليخلو بربِّه فى عبادة وصلاة، وكان معه فيها «أسامة بن زيد» و»بلال»، ثم صلى حيث وقف، ثم دار فى البيت، وكبر فى نواحيه، ووحد الله، ثُمَّ وقف على باب الكعبة، وقد اجتمع فى المسجد خلق كثير، ينظرون إليه من بعيد، فخطب الناس يومئذ فقال: يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل بكم، قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال صلى الله عليه وسلم: إنِّى أقول لكم كما قال أخى يوسف: «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» اذهبوا فأنتم الطلقاء.