عندما بدأت السينما قالوا إنها نهاية المسرح لكنه استمر وتطور واستفاد من السينما كما استفادت منه.. ولما انطلقت الإذاعة قالوا إنها ستقضي علي الصحف والمجلات ولم يحدث.. ونفس الشيء مع التليفزيون ووصولاً إلي السوشيال ميديا التي تحاصرنا الآن وتتجسس علينا كما تريد بدليل أنك عندما تفكر في شراء قميص يمطر عليك الموبايل مئات الإعلانات وكأنهم يسكنون داخل رأسك وها هي الإذاعة المصرية حتي ساعته وتاريخه تقاوم بل وجماهيرها تزداد لأنها استفادت من الإنترنت لكي تصبح مسموعة في أرجاء العالم وصفحات التواصل تجعل المستمع علي صلة بالاستديو ويقول رأيه مسموعًا ومكتوبًا.. كما أن كافة أجهزة الموبايل به راديو وبعد 90 عامًا.. تفرعت شجرة الإذاعة المصرية الرائدة من محطة واحدة إلي عشرات المحطات.. صوت العرب – الشرق الأوسط – الشباب والرياضة – القرآن الكريم – البرنامج العام – الإذاعات الموجهة – البرنامج الثقافي – المحطات الإقليمية.. في أرجاء مصر.. والموجهة بكل اللغات.. وجمهور الراديو لايزال مرتبطًا به.. حيث يمكن الاستماع إليه في أي مكان.. ولو تحت اللحاف ويكفي ترانزستور صغير يقوم بالواجب.. وكل محطة أو شبكة لها شخصيتها المستقلة.. هذا إلي جانب محطات خاصة.. وأخري متحررة مثل راديو مصر 9090 – إذاعة الإغاني – راديو النيل.. لكن ماذا عن أول يوم إذاعة..؟!
هنا القاهرة
قبل 31 مايو 1934.. كانت هناك شركة ماركسوني تسيطر علي المشهد الإذاعي وتمتلك أغلب المحطات في ظل الاحتلال الأجنبي وكل واحد يمتلك غرفة وفيها ميكروفون عنده إذاعة يقول فيها ما يحلو له.. حتي أصبحت مصر لنفسها في أرضها وبين أهلها.. وتحررت من الخواجه وسطوته.. حتي إذا جاء عام 1947 كان الصوت مصريًا خالصًا ينافس القطن طويل التيلة.. ولأن النهضة تأتي شاملة وبوجود رجل وطني مثل طلعت حرب.. تنهض البورصة ومعها استديو مصر وبنك مصر ومطبعة مصر.. ويجلجل اسم البلد رغم أنف الاحتلال الإنجليزي وعندما سمع الناس لأول مرة عند السادسة و45 دقيقة من يقول: هنا القاهرة.
سألوا عن هذا الشاب الذي سبق له التعامل لمدة سنتين من قبل مع الميكروفون مديرًا للقسم العربي قبل استقلال الإذاعة.. وهو حكاية في حد ذاتها.. إنه أحمد سالم صديق الملك فاروق ذلك الذي ذهب إلي إنجلترا ليدرس الهندسة ولما أتمها اشتري لنفسه طائرة.. قرر أن يعود بها من هناك وكان يود لو نزل بها في الشرقية حيث ولد وتحديدًا في أبو كبير.. لكن عدم وجود المطار المناسب لم يسمح له بذلك.. كان وسيمًا مشهورًا صاحب مزاج لا يستقر علي حال أو مهنة.
وفي أول أيام الإذاعة افتتحها سالم ثم جاء صوت الشيخ محمد رفعت يبارك الميكروفون.. وبعده استمع الناس إلي «ثومه» وعلي مدي ست ساعات هي مدة الإرسال.. كانت أغنية عبدالوهاب مطرب الأمراء والملوك.. ابن باب الشعرية وصالح عبدالحي.. وقصائد شعرية واحدة لعلي الجارم مدح فيها الملك فاروق.. وأخري ألقاها حسين ابن أمير الشعراء أحمد شوقي ثم فقرة موسيقية لمدحت عاصم وسامي السشوا.. وكان الصوت الذي يقدم الفقرات هو كروان الإذاعة محمد فتحي وعاش أهل المحروسة يومًا ضد النسيان لكن الراديو نفسه كان صعب المنال إلا عند الأكابر ودوار العمدة والأعيان..
حكاية النجم
لكن نجم اليوم هو أحمد سالم الذي شاهد طلعت حرب في حفل يقدمه واختاره لكي يكون من مؤسسي شركة مصر للتمثيل والسينما، وأن يستثمر دراسته كمهندس في إنشاء استديو مصر إلي جانب معرفته بالوسط الفني، وله في ذلك ثلاث زيجات لمديحة يسري وتحية كاريوكا وأمينة البارودي، لكن رصاصة طائشة بعد شجار بينه وبين أسمهان وبحضور أحد ضباط الشرطة أصابته، وهناك علامات استفهام حول ارتباطه بأسمهان وزوجته الرابعة التي ماتت في حادث مازال هو الآخر غامضاً لأن سالم أصر أن تسافر أسمهان إلي رأس البر بسيارته الخاصة مع سائقه محمد فضل الله، وهو الوحيد الذي نجا من السيارة التي انحرفت إلي الرياح التوفيقي عند مدينة أجا وغرفت أسمهان مع صديقتها ماري، لكن السائق بعد ذلك ظهرت عليه علامات الثراء ومات مقتولاً في حادث سيارة هو الآخر.
الرصاصة التي استقرت في صدر سالم استلزمت علاجاً لفترة خمس سنوات ومات متأثراً بها.
وكان الباشمهندس الإعلامي الفنان قد نجح في تأسيس استديو مصر علي أحدث نظم الاستديوهات وأنتج فيلم «وداد» لأم كلثوم، ثم قدم فيلم «لاشين» الذي أخذ فكرته عن قصة أجنبية مؤلفها «هنريش نوماين» وكتب السيناريو فرتيز كرامب مع مخرج العمل أحمد بدرخان، وكتب الحوار الشاعر أحمد رامي، إلي جانب أغاني الفيلم، ولعب البطولة حسن عزت الذي اختفي بعد ذلك، وقيل إنه احترف في أوروبا وعاش هناك، لكن القصر اعترض علي الفيلم لأنه فيه ثورة علي الحاكم، مما يذعن لطلبات الغلابة، حيث طلب الملك أن ينتصر الحاكم، وهو ما رفضه سالم رغم صداقته بالملك، وظل الفيلم ممنوعاً لسنوات، لكن الطيار أعجبته لعبة السينما وقدم نفسه فيها مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً ومنتجاً وحملت شركته اسم «نفرتيتي» وقدم «أجنحة الصحراء» وهو الذي اكتشف كاميليا الراقصة اليهودية الأصل التي ماتت في رحلة طائرة سقطت، وقد كانت هي الأخري حكاية ارتبطت بمشاهير علي رأسهم الملك فاروق، والغريب أن سالم كان يمارس تجارة السلاح ويورد المعدات للجيش الانجليزي وله صفقة خوذات ثار حولها الكثير من الحكايات، ربما أكثر مما جاء في أفلامها «رجل المستقبل، الماضي المجهول، دنيا، ابن عنتر، البريمو، المنتقم، حياة حائرة، شمشون الجبار، دموع الفرح»، أي أن تاريخه السينمائي كله عمره 10 سنوات تقريبا، بخلاف تأسيسه لاستديو وشركة مصر للتمثيل، وقبلها عمل بشركة عبود باشا، لكنه تمرد عليه، واتجه إلي الاذاعة ومنها إلي السينما، ولم يتوقف به الأمر عند افتتاح الإذاعة فقط، فقد كان يقدم الكثير من البرامج، ولكنها لم تكن مسجلة وبذلك ضاع تاريخه الإذاعي، الذي فتح أمامه أبواب السينما، حتي أصبحت حياته ومغامراته فيلماً في حد ذاته، وهو ما أقدمت عليه الشركة المتحدة، عندما أنتجت فيلماً وثائقياً بعنوان «الأسطورة» حول سالم من بدايته إلي نهايته، وقد عاش 39 سنة لكنها حافلة ومثيرة، وبها علامات تؤكد أننا أمام ابن الباشوات الذي تمرد علي كل شيء، حتي علي نفسه.