عندما تؤكد مصر.. وسط هذا «الاضطراب» الإقليمى والدولي.. على محورية ومركزية القضية الفلسطينية.. فإن ذلك يشير بشكل قوى إلى الإدراك المصرى الفطرى العميق لما تمثله «قضية العرب الأولي» بالنسبة للأمن القومى المصري.. وبالتالى للأمن القومى العربي.
يوم الخميس الماضى وخلال انعقاد «قمة الثمانى النامية» بالقاهرة.. أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى رفض مصر القاطع لأى «سيناريوهات» تستهدف تصفية القضية الفلسطينية سواء من خلال «التهجير» أو من خلال فصل غزة عن الضفة والقدس.. وشدد الرئيس على أن «حق العودة» للشعب الفلسطينى لا يسقط بالتقادم.. مع ضرورة الوقف الفورى لإطلاق النار فى غزة وإقامة دولة فلسطينية «متصلة» الأراضى على خطوط «الرابع من يونيو 1967» وعاصمتها القدس الشرقية.
نعم.. هذه ليست المرة الأولى التى تؤكد فيها مصر على هذا «الموقف».. لكن «الظرف» الدولى والإقليمى الذى جاء فيه هذا التأكيد هذه المرة يجعله موقفا مختلفا.. أهمية التأكيد على الثوابت المصرية والحقوق الفلسطينية فى هذه اللحظة التى يمر بها العالم والإقليم معا تنبع من أن هذا التأكيد الآن «يمنح» القضية الفلسطينية مزيدا من الدعم والقوة التى تجعلها عصية على محاولات إسرائيل الدائمة للتفكيك أو المحو أوالذوبان.. «الإدراك المصري» لما تعنيه القضية الفلسطينية من بين مايستند إليه هو تلك «الثابتة الإستراتيجية» التى تقول إن فلسطين بالنسبة للمنطقة هى شرارة الحرب وبوابة السلام.. تعرف مصر ذلك جيدا لذلك فهى تحرص دائما على تذكير العالم به فى كل مناسبة.. تفعل مصر ذلك وهى تواصل «مهمتها ومسئوليتها التاريخية» فى الحفاظ على «الحق الفلسطيني».. مهمة ومسئولية تاريخية تشهد عليها الجبال والصحارى والوديان وجميع تضاريس الجغرافيا.
كتبت كثيراً من قبل عن العلاقة «الاستثنائية» التى تربط مصر بفلسطين.. وأجدنى اليوم مهتما وحريصا على الكتابة مجددا عن هذه العلاقة وذلك انطلاقاً من الإيمان بأن هناك «لحظات» مثل تلك التى يمر بها العالم الآن تستلزم على كل متابع ومتأمل ومتدبر أن يؤكد المؤكد ويثبت المثبت.. يضاف إلى ذلك من أسباب دفعتنى للكتابة مجددا عن علاقة مصر بفلسطين مطالعتى لما ذكره صاحب رائعة «عبقرية المكان» الراحل الدكتور جمال حمدان فى موسوعة «شخصية مصر» عن هذا «الإرتباط الفريد» الذى يربط بين أرض «الأقصى والمسري» و»أرض الكنانة».. ففلسطين هى التى بها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.. ومصر هى أرض الكنانة.. كنانة الله.. إن الذى يربط بين البلدين أو بين «الأرضين» هو بالفعل رابط فريد متفرد.
الوعى المصرى بطبيعة وخصوصية هذا الارتباط مع فلسطين يمتد إلى أزمنة موغلة فى القدم ولعل معارك شهيرة محفورة فى التاريخ مثل «معركة مجدو» التى خاضتها مصر فى القرن الخامس عشر «قبل الميلاد» على أرض فلسطين.. لعل هذه المعركة وغيرها من المعارك والمواجهات التى دارت فى تلك الفترات تعد واحدة من الدلالات والإشارات المهمة والكاشفة التى توضح مدى الترابط وعلاقة التأثير والتأثر «القديمة» بين «الأمن القومى المصري» والأمن القومى الفلسطيني.. وقد توالت بعد ذلك الأحداث التى تثبت وتؤكد «الارتباط العضوي» الذى كان سائدا منذ فجر التاريخ لكنه لم يبح بكل تفاصيله وأسراره حتى الآن.. ليس مصادفة أن كانت فلسطين حاضرة فى كافة معارك الحرب والسلام التى خاضتها مصر فى العصر الحديث ابتداء بحرب «1948» مرورا بحروب «1956» و»1967» و»الاستنزاف» وصولا إلى حرب العاشر من رمضان 1393»السادس من أكتوبر 1973» ومعاهدة السلام مع إسرائيل.
بالإضافة إلى الخطاب الصريح المعلن الذى ألقاه الرئيس الراحل محمد أنور السادات فى «الكنيست»خلال زيارته الشهيرة لإسرائيل أواخر «سبعينيات»القرن الماضى والذى أكد فيه على حتمية حل القضية الفلسطينية وحصول الشعب الفلسطينى على كامل حقوقه.. بالإضافة إلى هذاالخطاب هناك شهادة أخرى تدلل وتشير إلى أن الرئيس السادات كان حريصا خلال مفاوضات السلام على إعادة إسرائيل للأراضى الفلسطينية المحتلة.. هذه الشهادة جاءت على لسان جيمى كارتر الرئيس الأمريكى الأسبق فى أحد الكتب الذى أصدرها وتناول فيها القضية الفلسطينية ومفاوضات السلام ببن مصر وإسرائيل حيث أشار كارتر إلى أن الرئيس السادات كان مصرا على انسحاب إسرائيل من سيناء ومن الأراضى الفلسطينية وأن مناحم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلى فى ذلك الوقت وافق على ذلك خلال المفاوضات لكنه بعد ذلك إلتزم بالانسحاب من سيناء وتراجع عما وافق عليه بشأن فلسطين.. مصر وفلسطين ارتباط عضوى بالفعل فى معارك الحرب والسلام.. ومعالم ذلك تحفظها وثائق التاريخ وصخور الجغرافيا.
أعود هنا من جديد إلى هذه «اللمحة» التى تطرق لها جمال حمدان متحدثا عن «الارتباط الفريد» بين مصر وفلسطين.. حيث يقول حمدان: إن تكن مصر أكثر إفريقيا «آسيوية» وعروبة.. فإن فلسطين هى أكثر آسيا والعروبة «إفريقية» ومصرية معا.. وكما أن فلسطين بداية البعد الآسيوى فى كيان مصر.. فإن مصر هى بداية البعد الإفريقى فى كيان فلسطين.. ويواصل جمال حمدان : إن الفلسطينيين يبدون من البداية من أقرب العرب عموما وعرب المشرق وآسيا خصوصا إلى مصر.. لهجة ولونا وبشرة وطريقة حياة وحضارة.. بل لعل فلسطين من الحالات القليلة النادرة التى انتقلت إليها هجرة ودماء مصرية بدرجة مهمة أو مذكورة قد تتجاوز فى تقدير البعض من الباحثين الفلسطينيين أنفسهم ومن جانبهم كل توقعاتنا العادية وتصورنا التقليدي.. إن تدفقات الهجرة والدماء والاندماج هنا كانت دائما مزدوجة فى الإتجاهين.
ويضيف جمال حمدان: إذا قصرنا الأمر على العصر الحديث.. فإنه منذ الحملة الفرنسية على مصر كانت فلسطين ملجأ ومهربا أو منفى لكثير من المصريين فى فترات الاضطهاد أو الاضطراب أو المحن والأزمات ابتداء من الحملة نفسها إلى حملات محمد على وحروبه فى الشام وفلسطين ذاتها إلى عملية السخرة فى حفر قناة السويس إلى الحركة العرابية حتى تجنيد «أنفار السلطة» فى الحرب العالمية الأولي.. ويستكمل جمال حمدان: وكما أن من هذه العناصر من عاد إلى مصر بعد إقامة طالت أو كثرت فإن من الثابت المؤكد يقينا أن كثرة هامة منها استقرت وتوطنت وانصهرت فى الكيان الفلسطينى ومازالت آثارها وذكرياتها باقية ملحوظة فى «السحنة» واللهجة وفى العادات والأسماء.. والأسماء بالذات سواء أسماء الأشخاص أوالعائلات تعد كشافا جغرافيا أمينا يشير إلى الأصل المصرى عموما وإلى شرق الدلتا خصوصا.
ويؤكد جمال حمدان: إنه لاخلاف إذن على الأثر والدم والوجود المصرى المادى فى الكيان الفلسطينى وتكوين فلسطين.. ولكن ماقد يكون محل خلاف هو فقط تقدير حجم تلك العناصر والمؤثرات وذلك الخروج والهجرة ثم مدى الاستيطان أو العودة.. ويقول حمدان: إن نابليون بونابرت وجد فى يافا الفلسطينية نحو أربعمئة مصرى أمر بإعادتهم إلى مصر حين رفضوا الإلتحاق بجيشه.. أما محمد على فكانت ذريعته فى حملته الأولى على فلسطين هى مطالبته بإعادة المصريين الفارين من سخرته وبطشه والذين يقدر عددهم بنحو ستة آلاف.. وإن ماحدث فى النهاية أن جيوش محمد على المنسحبة من الشام فى آخر عهده خلفت وراءها ألوفا من المصريين أصبحوا بعد حبن من الدهر كأهل الشام فى مناحيهم على نحو ما كان من أمر الألوف السابقة التى كانت ذريعة الحملة والذين كانوا قد تفرقوا فى أنحاء فلسطين وأحالتهم بوتقتها شاميين.. ويشير حمدان إلى أن: المؤرخ الفرنسى مورييه حدد هؤلاء المصريين الذين ظلوا فى فلسطين خلال فترة الحملة الفرنسية وحملات محمد على بنحو مائة وأربعين ألفا فى حين ذكر كاتب فلسطينى هو عمر البرغوثى أن أكثر من عشر سكان فلسطين ينتمون إلى أصل مصري.
ويلخص جمال حمدان جزءا مهما من الجانب الآخر من الصورة بقوله إنه مثلما كان قد لجأ كثير من المصريين إلى فلسطين هربا من سخرة حفر قناة السويس فإن القناة بعدما ازدهرت بالمدن والنشاط اجتذبت من بين ما اجتذبت الفلسطينيين إلى «الهجرة» إليها والإقامة بها.. وكما لا تخلو مدينة فلسطينية من المواطنين ذوى الأصول المصرية يحدث ذلك فى مصر أيضا حيث نجد التبالسة والخلايلة «نسبة إلى نابلس والخليل الفلسطينيتين»يكثرون فى مدن مصر ابتداء من الاقاليم حتى العاصمة.
وإذا كان ماسبق يتعلق بالعلاقة أو الإرتباط المباشر ببن مصر وفلسطين فإن هناك نوعاً آخر من الارتباط هو الارتباط غير المباشر أو الارتباط العام والذى يتمثل مثلما يقول جمال حمدان فى البعد الآسيوى لمصر.. ذلك البعد الذى يكشف عن واحدا من مظاهر خصوصية الانتماء «الشرقي» لمصر.. يقول جمال حمدان فى ذلك : إن لمصر بعدين أساسين هما البعد الآسيوى والبعد الإفريقى وكل من البعدين ساهم فى تكوين شخصيتها وتحديد لونها بنسبة معينة.. فالبعد الإفريقى مدنا بالمياه والسكان والبعد الآسيوى مدن بالحضارة.. الدين والثقافة.. منذ العرب وحتى فى العصر الحديث.. ويضيف جمال حمدان: إن الثقل والخطر دائما وأساسا يذهب إلى البعد الآسيوي.. فرغم أن مصر فى إفريقيا موقعا فإنها كانت فى آسيا وقعا.. هى فى إفريقيا بالجغرافيا لكنها فى آسيا بالتاريخ.. فى إفريقيا طبيعيا لكنها فى آسيا بشريا أكثر.
ويقول جمال حمدان: إن مصر فى علاقاتها الخارجية كانت مصر القديمة آسيوية أكثر منها إفريقية.. فمصر هى أكثر إفريقيا آسيوية والانحدار التاريخى والجاذبية الجغرافية فى مصر هى أساسا نحو الشمال عموما والشمال الشرقى خصوصا.. إن نظرة إلى الخريطة تكشف لنا حقيقة بسيطة ولكنها دالة.. فالنيل فى مصر لايجرى فى منتصف الصحراء ولكنه يجنح بتحيز واضح نحو الشرق.. كذلك الصحراء الغربية تعد أصعب اختراقا وأقل انفتاحا من الصحراء الشرقية.. كذلك فإنه على الرغم من أن الصحراء الشرقية أشد وعورة إلا إنها أكثر ماء وحياة.. ويواصل جمال حمدان: إن مصر دخلت فى علاقة ارتباط قوية مع غرب آسيا.. والواقع أنه قبل أن يولد العالم العربى وحتى اليوم كانت مصر لهذا تكون قطاعا حيويا من «الحلقة السعيدة» وهى تلك الحلقة من الأراضى الخصيبة أو «الأكثر غني»التى تحيط بالجزيرة العربية.. وكانت مصر تدخل فى هذه الدائرة عن طريق شريط سيناء الشمالى من ناحية ووادى الحمامات من ناحية أخري.. وكانت تلك دائرة كاملة تجرى فيها تيارات التاريخ والحياة بلا انقطاع مثل الدائرة الكهربائية المغلقة وكانت مصر قطبا أساسيا من أقطاب هذه الدائرة.. ولهذا كانت تقف على بوابة إفريقيا وتنظر إلى نافذة آسيا.
ويستطرد جمال حمدان قائلاً: على الضلوع الغربية للحلقة السعيدة انبثقت منها وتداخلت معها أو انطبعت فوقها حلقة محلية أو ثانوية من مقياس أصغر «الحلقة الصغيرة» تلف حول البحر الأحمر وحوضه على طول سواحله الشرقية والغربية مستمرة عبر سيناء وباب المندب مع بعض توصيلات فرعية عرضية عبر البحر كما عند جدة والقصير وبورسودان ومصوع.. فى هذه «الدائرة الكهربائية الصغيرة» كانت تدور حركة التاريخ الإقليمى والعلاقات والتجارة والهجرات بلا انقطاع مع وعكس عقارب الساعة بلا تمييز وذلك بين غرب الجزيرة العربية ووادى النيل.. ويقول جمال حمدان إن جالية من صعيد مصر انتقلت إلى المدينة المنورة قبل الإسلام استقرت وتوطنت ويقال إنها أصل أبنائها الذين استقبلوا رسول الله حبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بالترحيب قبل فتح مكة المكرمة.. إن إتصال مصر الأرضى بآسياعبر سيناء له أهمية بالغة فى تاريخ مصر بل المنطقة العربية كلها.. إن هذا الإتصال.. كما يقول جمال حمدان.. قد يكون أهم حقيقة منفردة فى تاريخ وتوجيه مصر كلها.
ما ذكره جمال حمدان عن ذلك الارتباط شديد الخصوصية بين فلسطين ومصر.. أكدته وأثبتته «بشكل آخر» العديد من الدراسات والأبحاث والوثائق.. نعم إنه «إرتباط عضوي» ممتد إمتداد قلاع التاريخ وحصون الجغرافيا.. إن مصر «فى هذه اللحظة بالغة الدقة» التى يمر بها العالم عندما تقدم «القضية الفلسطينية» باعتبارها مازالت هى القضية الأم «قضية العرب الأولى» مهما تعددت وتراكمت الأحداث.. فإنها بذلك تبعث بالعديد من الرسائل فى كافة الاتجاهات .. هذه الرسائل تقول إن مصر «واعية» .. مصر تؤمن أن فلسطين بالفعل هى «كلمة السر» فى استقرار المنطقة والإقليم .. والعالم .
من خرج فى طلب العلم كان فى سبيل الله حتى يرجع.. صدق حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد..اللهم بارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد.. وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فلسطين.. أرض الأقصى.. أرض المحشر.. أرض المسرى.. مسرى حبيبنا وسيدنا محمد رسول الرحمة والإنسانية.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.