لم يعد أمامنا ما نأكله سوى البرسيم وحشائش الأرض، حتى يرضى عنا خبراء التغذية الذين أصبح عددهم يفوق بكثير عدد أصناف الطعام التى نعرفها، والذين أصبحت طلعتهم البهية وطلتهم السنية مقررة علينا على كل الشاشات التليفزيونية، فقد اقتحموا موائد طعامنا وشككونا فى كل ما نأكل، ورفعوا فى وجهونا شعارا غريبا مفزعا مخيفا: الموت جوعا افضل وسيلة للصحة والشباب والحيوية وحتى للقدرة الجنسية التى لا تعترف بعوامل الزمن ولا تستجيب لمنطقه.
اللحوم الحمراء قاتلة، الأسماك تحتوى على المعادن الثقيلة السامة، الخضراوات ملوثة بالمبيدات والمخصبات، الدواجن مليئة بالهرمونات والمضادات الحيوية، الحليب سام، الاجبان تسبب الحساسية وتدمر المناعة الطبيعية، الوجبات السريعة والبطيئة سبب البلاء وموطن الداء، الطحين أو دقيق القمح ومعه كل المعجنات والفطائر والخبز والمكرونة مدمرة، السكر ضار والملح أيضا، الشحوم الحيوانية ترفع الكوليسترول الخبيث فى الدم وتسبب متاعب القلب والكبد والمرارة، والزيوت النباتية تسبب البدانة وتزيد الوزن وتجهد المفاصل.
وما أن تهل علينا شهور الصيف الحارة الرطبة الخانقة حتى تهل علينا معها وجوه خبراء التغذية إياهم ليزفوا إلينا بشرى اكتشاف التأثيرات الضارة والخطيرة والقاتلة والتى تتجاوز خطورتها أسلحة الدمار الشامل، للايس كريم والمرطبات والعصائر الطبيعية والصناعية والمنعشات.. والغريب انهم يطلقون علينا نيرانهم بدم بارد وابتسامة مشرقة متألقة.
أصبحت برامج النصائح الغذائية مقررة علينا فى كل القنوات العربية الفضائية والأرضية، أصبحت مزمنة كالمرض مؤلمة كالجرح الغائر.. إحدى الخبيرات التى اكتسبت شهرة واسعة فى هذا المجال لم تترك خيارا غذائيا للبشر سوى الحبوب الكاملة، ولا مانع من الخضراوات بشرط التأكد من خلوها من المبيدات والملوثات، وبالطبع لم تقل لنا كيف نتأكد من ذلك، وبما أننا لا نعرف فالأفضل أن نتجنبها، وان نكتفى بالحبوب حتى ولو كانت مثل الخضراوات، ملوثة بالكيماويات.. لأننا لو استبعدناها فلن نأكل أبدا حتى نموت جوعا.
الخبيرة العبقرية تؤكد بمناسبة ودون مناسبة خطورة تناول الحليب ومشتقاته، والأطباء يحذرون من غياب الحليب والأجبان عن أطعمة أطفالنا، ونحتار بين كلام الخبيرة وبين نصائح الأطباء الذين يبدو أنهم أصبحوا اقل خبرة من عباقرة التغذية التليفزيونيين.. وحتى تؤكد الخبيرة إياها كلامها، تستعين فى إحدى حلقات البرنامج الذى تسوقه للكثير من القنوات التليفزيونية، بخبيرة أخرى مساعدة ومثقفة جداً، حيث تتحدث بطريقة «الفرانكو أراب».. يعنى كلمة عربى وعشرة إنجليزى لزوم الشياكة.. وتحدثنا الخبيرة المساعدة عن فلسفة «اللاطعام» التى أكسبتها الرشاقة والجمال والسحر والحيوية والذكاء.. وبالطبع لا «تقصر» الكاميرا فى إظهار ذلك مع التركيز على «المواقع» الأكثر إقناعا فى جسمها.
المشكلة أن الحقائق تختلط بالأكاذيب فى كلام هؤلاء.. فلا نعرف الخطأ من الصواب، ويصاب التفكير بالتشوش، المشكلة أن بعض من يطلون علينا عبر الشاشة الصغيرة باعتبارهم خبراء ليس لديهم خبرة فى أى شيء، فقد أصبحت أحاديث الصحة والغذاء تجارة من لا عمل له، المشكلة أن الأطباء تركوا الساحة الإعلامية لهم، ليسمموا أفكارنا ويفسدوا طعامنا.
سؤال.. كيف يعيش طفل لا يأكل منتجات الحليب ولا البيض ولا اللحوم بكل أنواعها.. الحمراء والبيضاء.. لا يأكل البطاطس أو الخبز أو المكرونة أو الأسماك أو أى شيء؟.. أعتذر عن طرح هذا السؤال، فمجرد طرحه يعد انتصارا للخبراء المزعومين على المشاهدين المساكين الذين أنا منهم بالطبع، وبصراحة اكثر.. فإن مطربى المهرجانات واغانى الثعلب فات والكليبات فى الحانات أرحم منهم بكثير.