عندما ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو إلى الكونجرس الأمريكى منذ شهور، حاملاً معه خريطة ما يسمى «إسرائيل الكبري» التى تضم الأراضى الفلسطينية إلى جانب أجزاء من أراضى الدول العربية المجاورة، فى مسعى لإقناع المشرعين الأمريكيين بعدالة الحروب التى يشنها فى المنطقة، وأن إسرائيل لم تحقق دولتها بعد على أرضها ـ حسب ادعائه ـ كان تعليق المرشح الرئاسى الجمهورى وقتها «دونالد ترامب» أنه يشعر بأن «مساحة إسرائيل صغيرة»!!
وكان هذا التعليق وحده كافياً لأن يعتبره نتنياهو «ضوءاً أخضر» ورسالة دعم علنية من رئيس أمريكا المنتظر للمضى فى مخططه التوسعى لتحقيق حلم إسرائيل الكبري.
وبالفعل، أصبحت خريطة إسرائيل الكبرى معلقة فى كل مكان داخل إسرائيل، ويجرى الترويج لها فى الخارج بينما يواصل الجيش الإسرائيلى عملياته على الأرض فى غزة والضفة والجنوب اللبنانى لتدمير البنى التحتية أو ما تبقى منها، وحصد الأرواح، والحكومة الإسرائيلية تخرج من أدراجها مخططات التوسع الاستيطانى الجديد فى الأراضى الفلسطينية، وتعلن أن الجيش الإسرائيلى سيستمر فى الجنوب اللبنانى لأجل غير محدد فى تحد صارخ لقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار والانسحاب خلال ستين يوماً.
الآن.. ومع بدء العد التنازلى لتنصيب ترامب فى العشرين من يناير الحالى رئيساً رسمياً للولايات المتحدة الأمريكية، يقدم لإسرائيل ولحكومتها ورئيس وزرائها حافزاً جديداً على المضى فى مخططها التوسعى على حساب الأراضى العربية.
إن مساحة إسرائيل الحالية لا تزيد كثيراً عن اثنين بالمائة من مساحة الولايات المتحدة، ومع ذلك أعلن الرئيس المنتخب ترامب رغبته فى ضم أراضى دولتين وجزيرة إلى الولايات المتحدة.. الدولتان هما كندا فى شمال أمريكا وتزيد مساحتها على مساحة الولايات المتحدة نفسها، وبنما فى جنوبها.. أما الجزيرة فتقع فى القطب الشمالى وتتبع دولة الدانمارك الأوروبية.
ولم يكتف ترامب بمجرد «إعلان رغبة» بل حوله إلى «تأكيد عزم» وأرفقه بـ «عقوبات» فى حالة رفض الدول الثلاث، بالاستيلاء على قناة بنما ما لم تلغ رسوم المرور التى تفرضها على السفن الأمريكية، وبفرض رسوم جمركية مضاعفة على أى منتجات كندية أو دانماركية تدخل أمريكا.
هل هناك حافز لـ مجرم حرب» مطلوب على لائحة المحكمة الجنائية الدولية، ومتهم بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، للمضى فى مخططه التوسعى لتحقيق دولة إسرائيل الكبرى أكثر من هذا الإعلان الترامبي؟!
طبعاً الرفض كان الرد المنتظر من قادة الدول الثلاث: كندا ـ بنما والدانمارك، على تهديدات ترامب خاصة أنه أضاف أن خيار استخدام القوة العسكرية فى هذه الحالات غير مستبعد!!
ووارد أن تكون تهديدات ترامب مجرد «تهويش» كعادته لتخويف الطرف الآخر ودفعه للرضوخ للبدائل التى يعرضها عليه.. لكن فى النهاية، هى رسالة خارج نطاق القوانين والأعراف الدولية، تشجع كل من يحلم بالاستيلاء على أراضى الغير وضمها إليه بالمسارعة لاستغلال الفرصة وتحقيق حلمه.
وبالطبع، الذرائع جاهزة.. الادعاء بحقوق تاريخية، أو بضمان الأمن القومي، أو بمنع «الإرهابيين» من الاستيلاء عليها.. إلى آخره.
إن ترامب، الذى قدم نفسه خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة على أنه الرجل القادم إلى البيت الأبيض لإنهاء الصراعات والحروب المسلحة فى العالم، من أوكرانيا إلى غزة ولبنان، يكشف اليوم، وقبل عشرة أيام فقط من تنصيبه عن وجه آخر مناقض لذلك كل التناقض.
لقد هدد منطقتنا بتحويلها إلى جحيم إذا لم تفرج حركة حماس الفلسطينية عن الرهائن المحتجزين لديها قبل موعد تنصيبه فى العشرين من يناير.. وها هو يلوح بخيار القوة العسكرية فى مواجهة ثلاث دول، منها دولة جوار هى كندا، التى تشغل مثل أمريكا مقعداً ضمن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبري، إذا لم تسلم أراضيها إليه.
بل أكثر من ذلك، فإن حروب وصراعات العالم ليست عسكرية أو مسلحة فقط.. إن ترامب هو «أبو» مشعلى الحروب الاقتصادية والتجارية على مستوى العالم.. كان كذلك فى فترة رئاسته السابقة، وهو يستهل فترة رئاسته الوشيكة بذلك أيضاً باستخدامه للرسوم الجمركية وغيرها من أدوات التجارة الدولية لتحقيق أهداف سياسية خارج نطاق الأمم المتحدة بل والقانون الدولى أيضاً.
فعل ذلك فى رئاسته الماضية مع الصين، ومع حلفاء بلاده فى أوروبا، وهو يستعد لتكرار ذلك فى رئاسته الحالية، دون أى اعتبار للآثار السلبية الهائلة لهذه الحروب على مواطنى دول العالم المختلفة التى تكتوى بنيرانها والذين يتحملون العبء الأكبر لها من تكاليف حياتهم ومعيشتهم ومستقبل أبنائهم.
الوجه الآخر لسلوك الرئيس الأمريكي، والذى يحول هذا التحدى إلى فرصة لنا، أنه يخلق من الدول الثلاث: كندا ـ بنما ـ الدانمارك، جبهة رفض جديدة لمنهج ضم أراضى الغير تحت أى دعوي، وعلى غير رضاهم، وهو ما يعزز الرفض العربى الرسمى والشعبى لأى مسمى إسرائيلى لتحقيق خريطة إسرائيل الكبري.
إننا نتمسك بـ «حل الدولتين» للقضية الفلسطينية.. وإسرائيل تحاول تحويله إلى «فخ» لنا، وفرصة لها بإعادة رسم خطوط دولتها الجديدة بما يلغى أى احتمال لقيام دولة فلسطينية، وهذا يجعلنا فى حاجة إلى أكبر دعم دولى لإجهاض هذا المخطط على الأرض.
ولدينا فرصة لتعزيز الموقف العربي، نتمنى ألا نضيفها إلى جملة فرصنا الضائعة.