كل يوم يمر منذ السابع من أكتوبر الماضي، تفقد السياسة الأمريكية تجاه عالمنا العربى والشرق الأوسط، وفى قلبهما القضية الفلسطينية، والحملة العسكرية الصهيونية ضد الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة، الكثير مما تبقى لها من مصداقية واحترام لدى الرأى العام فى المنطقة، بل وأوساط واسعة تتزايد كل يوم من الرأى العام العالمي.
لقد لعبت السياسة الأمريكية فى منطقتنا خلال هذه الشهور الأربعة أسوأ أدوارها على الإطلاق، كتعبير عن دولة عظمى تنفرد بقيادة النظام العالمي، ويفترض أن تثبت أهليتها للقيادة، ليس بتفوق عسكرى أو اقتصادى فقط، بل بأن تكون الأكثر التزاماً عملياً بما تدعو إليه الآخرين من احترام القانون الدولى وحقوق الإنسان، والنظرة العادلة لكل أطراف المجتمع الدولى ومكوناته، دون انحياز لطرف لمجرد أنه حليف أو حارس لمصالحها، حتى لو دفعها ذلك إلى إسقاط أهلية القيادة عنها.
وأكاد أجزم أن الشارع العربى أصبح ينظر إلى الخطاب السياسى الأمريكى فى هذه الفترة بإحساس كبير بأن هذا الخطاب يمتهن عقله، ويبيع له بضاعة فاسدة لم تعد تستحق منه مجرد الاستماع فضلاً عن الاقتناع، لأن معظم هذا الخطاب أصبح منفصلاً تماماً عن السلوك الأمريكى على أرض الواقع.
إن البعض ممن يراقبون ما يصدر مثلاً من تصريحات أمريكية على لسان الرئيس الأمريكى «بايدن» ورموز إدارته فى الأسبوعين الماضيين، يمثل «تحولاً» فى الموقف الأمريكى الذى ساد قبلهما، واجتهدوا فى نسبة هذا التحول إلى ضغوط داخلية وتطورات خارجية واعتبارات انتخابية، وبصفة خاصة إلى قبول محكمة العدل الدولية النظر والتحقيق فى جدية اتهام دولة جنوب أفريقيا لإسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين فى غزة والضفة، واضطرار الإدارة الأمريكية إلى أن تأخذ خطوة ـ ولو قصيرة جداً إلى الوراء ـ حتى لا يطالها رذاذ هذا الاتهام إن انتهت المحكمة إلى الإقرار بصحته ومعاقبة مرتكبيه وكل من أعانهم عليه.
ورأيى أنه، حتى لو صح هذا التفسير، فإن هذا الخطاب السياسى الأمريكى فعل ذلك بطريقة ساذجة وغير مقنعة لأحد، وهذا راجع إما لـ «عيب خلقي» فى السياسة الأمريكية الحالية، وإما استهانة بمن يتوجه إليهم هذا الخطاب، وهو الاحتمال الأرجح.
فعندما يصرح الرئيس الأمريكى يوم الاثنين الماضى مثلاً بأن رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو «هو العائق الرئيسي» أمام وقف إطلاق النار فى غزة، فإن مثل هذا التصريح يصعب على أى طفل استقباله بجدية أو احترام.
إن هذا التصريح يثير سؤالاً بسيطاً هو:
من يقود من؟!
إسرائيل ليست عضواً بمجلس الأمن، والفيتو الوحيد ضد صدور قرار بوقف إطلاق النار كان أمريكياً.. ومازال الرئيس الأمريكى يكرر أن بلاده مع استمرار إسرائيل فى حربها فى غزة حتى تحقق أهدافها التى تشاركها فيها أمريكا وهى القضاء على حركة حماس، واستعادة الرهائن المحتجزين فى غزة، وضمان ألا تتعرض إسرائيل مستقبلاً لمثل ما تعرضت له فى عملية «طوفان الأقصي».
وإسرائيل لم تكن لتستطيع الاستمرار فى عدوانها حتى الآن متحدية المجتمع الدولى بكل مكوناته، والقوانين الدولية بكل مسمياتها دون تدفق أحدث الأسلحة الأمريكية عليها بعد السابع من أكتوبر الماضي، ودون حراسة من الأساطيل الأمريكية فى البحرين المتوسط والأحمر لردع أى تحرك عسكرى ضدها من أى طرف إقليمي.
ببساطة.. لو رفع الرئيس الأمريكى «غطاء الفيتو» عن إسرائيل فى مجلس الأمن لصدر القرار غداً بإجماع الدول الأعضاء بوقف دائم لإطلاق النار وبدء ترتيبات الانتقال إلى مائدة المفاوضات.
إلا إذا كان نتنياهو، هو من يقود الولايات المتحدة، ومن خلالها النظام العالمى أيضاً.
نموذج ثان.. عقوبات أمريكية وأوروبية ضد عنف المستوطنين فى الضفة الغربية.. مانشيت عريض يتصدر العديد من وسائل الإعلام العالمية، ويتضمن فرض حظر على دخول المستوطنين الإسرائيليين المتهمين بممارسة العنف ضد الفلسطينيين إلى الأراضى الأمريكية أو أراضى بعض الدول الأوروبية.
إذن، فى يد أمريكا وأوروبا سلاح فرض «عقوبات».. لكن السؤال هو: ضد من؟!
لن نسأل من الذى شجع إسرائيل على جلب المستوطنين من مواطنهم الأصلية لإسرائيل على مدى عقود ماضية، ولا من غض الطرف عن بناء إسرائيل عشرات المستوطنات بصورة غير شرعية فى الأراضى المحتلة، واكتفى بإعلان أنه يعتبر المستوطنات «عقبة فى طريق السلام» وهو يعلم أن السلام ذاته سراب؟!
دعونا من الماضي.. ولننظر إلى ما يجرى على الأرض يومياً، ويتصاعد قبل وبعد السابع من أكتوبر، بل وكان أحد دوافع المقاومة الفلسطينية فى القيام بعملية «طوفان الأقصي».
اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصي، وللمخيمات الفلسطينية، وتسليح بعضهم، وممارستهم العنف ضد المدنيين الفلسطينيين فى الضفة، لا تنشر وقائعه عبر العالم كله إلا مصحوباً بعبارة: «فى حراسة قوات الاحتلال».
أى أن عنف المستوطنين يتم بإرادة من الحكومة الإسرائيلية، وفى حراسة قواتها المسلحة أو شرطتها، وأنه نمط من أنماط «إرهاب الدولة» الذى تجيده قوة الاحتلال الإسرائيلي.. فمن الذى يستحق العقاب.. المنفذ.. أم من يحميه ويوفر له الغطاء لارتكاب جريمته؟!
لكن.. من يقدر على معاقبة إسرائيل؟!
تصوروا.. أمريكا وحلفاؤها الغربيون، على مدى عامين من بدء الحرب الروسية ـ الأوكرانية، الذين لم يفرضوا على إسرائيل عقوبة جديدة واحدة ذات تأثير طوال تاريخها، كانوا ينامون بالليل ويستيقظون فى الصباح ليعاقبوا روسيا، القوة العظمى الثانية فى العالم، ليس بعقوبة واحدة.. بل بـ «الحزمة» حتى بلغ عددها الآن تسع حزمات!!
نموذج ثالث.. تصريح للرئيس بايدن هذا الأسبوع تعقيباً على تحذيرات العالم من مغبة أى اقتحام برى إسرائيلى لمدينة رفح الفلسطينية وما يترتب عليه ـ إن حدث ـ من كارثة إنسانية مروعة، وتهجير قسرى للنازحين.
قال الرئيس بايدن: «أبلغت نتنياهو أننا لا نريد أن نرى أحداً يجبر على مغادرة أرضه أو منزله فى قطاع غزة»!!
هل هذا خطاب سياسى مناسب فى هذه اللحظة؟! إن المليون ونصف المليون فلسطينى الذين يتكدسون فى رفح وجنوب غزة تم إجبارهم قسراً على مغادرة أرضهم فى شمال ووسط القطاع بقوة الاحتلال، ولم تعد لمعظمهم منازل أصلاً بعد أن دمرتها الآليات العسكرية الأمريكية لقوات الاحتلال.
فما هى ترجمتك «العملية» ـ سيادة الرئيس الأمريكى لهذا التصريح عندما تحوله إلى موقف؟!
لا توجد سوى الترجمة «الحرفية» وهى أن يغمض الرئيس الأمريكى عينيه، أو يدير ظهره حتى لا يرى أحداً يجبر على مغادرة أرضه أو منزله فى قطاع غزة!!
ولا أحتاج لمزيد من النماذج رغم توافر الكثير منها، وعلى رأسها دبلوماسية: «اضرب وطبطب» التى ينفذها وزير الخارجية الأمريكية «بلينكن» بتكليف رئاسي.. أمريكا تضرب يميناً ويساراً فى سوريا والعراق واليمن وغيرها فضلاً عن دعمها للعدوان على غزة وبلينكن يقوم حتى الآن بخمس جولات فى المنطقة ليؤكد أن أمريكا لا تسعى لتوسيع رقعة الحرب، ولا لمواجهة مع هذه الدولة أو تلك.
أو تصريحات الرئيس الأمريكى عن معبر رفح ردت عليها رئاسة الجمهورية ببيان شديد اللباقة، شديد القوة فى نفس الوقت، لأن العالم كله شاهد خلال الأربعة شهور الماضية أن مصر لم تغلق المعبر أبداً، وأن قوافل المساعدات التى قدمتها وحدها لأهلنا فى غزة تفوق مجموع ما قدمته بقية دول العالم.
السياسة الأمريكية ستظل تعانى طويلاً من الآثار السلبية لتعاطيها مع ما يجرى فى إقليمنا، وسينعكس ذلك على هيبة الدولة الأمريكية فى نظر شعوبنا.