يشغلنا جميعا ما يحدث في غزة، ونتألم للمعاناة التي يعيشها أهل القطاع، ونتمسك بثوابت دولتنا المصرية الواضحة التي لا تتنازل عنها، سواء رفض تصفية القضية أو تهجير الفلسطينيين إلى خارج أراضيهم، والإصرار على العمل المستمر لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية.
غزة بالنسبة لنا أمن قومى ولا يمكن أن نفرط في القضية المركزية الأولى للأمة العربية ولنا كمصريين، وعلى مدى تسعة أشهر تكاد تكون مصر هي الدولة الوحيدة التي لم تتوقف ساعة واحدة عن الدعم للأشقاء، سياسيًا ودبلوماسيًا وإنسانيًا، البعض تعامل مع قضية غزة باعتبارها سبوبة يتربحون منها سياسيًا على حساب دماء الأشقاء ومعاناتهم، والبعض الآخر نفذ خططًا ليصنع لنفسه مكانة في الإقليم أو يحقق مصالح خاصة، لكن مصر تعاملت مع الأمر بوضوح وشفافية وشرف، ووفق الثوابت الوطنية التى تحافظ على حقوق الشعب الفلسطيني ولا تساوم عليه، وربما لا يعرف كثيرون أنه مقابل هذا الموقف الواضح والثابت تدفع مصر ثمنًا كبيرًا، لكنها تتحمل في سبيل الأشقاء، ومن أجل قضيتهم تعمل مصر فى مسارات عدة تستغرق منها جهدًا ضخمًا.
على المستوى الإنساني المتمثل في المساعدات تؤكد الأرقام أن مصر تساهم بأكثر من 78 % منها، ولولا هذا الحرص المصرى على مواصلة المساعدات من خلال الدولة والتحالف الوطني للعمل الأهلى والهلال الأحمر المصرى لكان الوضع في غزة مأساويًا، لأن إجمالي المساعدات القادمة من الخارج ضعيف ولا يكفى شيئًا، على مستوى السياسة الخارجية تتحرك مصر بكل ثقلها لحشد العالم والمجتمع الدولي من أجل فضح الجرائم الإسرائيلية ودعم الحق الفلسطينى فى إيقاف الحرب الوحشية وكذلك التأكيد على حل الدولتين، وهذه التحركات كان لها تأثير واضح في تغيير رؤية المجتمع الدولى للقضية الفلسطينية.
على المستوى الأمنى لا تتوقف محاولات القاهرة واتصالاتها مع الأطراف المختلفة من أجل إيجاد حلول سياسية والتوصل إلى اتفاق وإيقاف الحرب ومنع الدمار والخراب وحقن الدماء الفلسطينية والبدء في المفاوضات السياسية من أجل الوصول إلى حل الدولتين.
وعلى المستوى الإعلامى لعبت مصر بإعلامها الوطني الواعى بمحددات الدولة والقضية دورا في فرض الرواية الفلسطينية والتصدى للأكاذيب الإسرائيلية بل وإجبار بعض وسائل الإعلام الإقليمى والدولى على تغيير لغته والتعامل وفق التوصيفات والسردية المصرية بل والنقل عن الإعلام المصري، مثلما يحدث مع “القاهرة الإخبارية”.
وبجانب كل هذه الجهود تعمل القاهرة على تحقيق المصالحة الفلسطينية باعتبارها أحد أهم عوامل القوة للموقف الفلسطينى فى مواجهة المخطط الإسرائيلي الأمريكي.
هذا كله يتم بقناعة وعقيدة خلاصتها أن القضية الفلسطينية هم مصرى وأولوية وطنية لا يمكن التخلى عنها، باعتبار ما يحدث فى غزة جزءًا مما يهدد الأمن القومى المصري.
لكن ليس هذا هو الخطر الوحيد الذي يهدد الأمن القومى المصري، فعلى حدودنا الجنوبية ما هو أخطر، وربما أصعب، وتهديده أشد، فما يحدث في السودان كارثة منسية للكثيرين بسبب انشغال الجميع فى غزة وببعض القضايا الأخرى، وهذا خطأ كبير، أن نتجاهل ما يحدث في السودان أو ننشغل عنه بسبب قضايا أخري.
بالتأكيد أنا لا أتحدث عن تجاهل مؤسسات الدولة وإنما عن تجاهل الغالبية من السياسيين والإعلاميين بل والمواطنين، بسبب الانشغال بما يحدث في غزة، أما مؤسسات الدولة فهى يقظة لهذا الأمر ولا تغفل عما يحدث في السودان وتتعامل مع الأمر بجدية ووفق محددات واضحة أيضا لأن مصر تحاول تجنيب السودان المصير الصعب، وتبذل جهودا ضخمة فى هذا الاتجاه لأن الوضع وصل إلى مستوى غير مقبول، وإذا انفجر فسوف تكون التوابع كارثية على السودان ومصير شعبه المنكوب بما يحدث، وعلى المنطقة بالكامل وأولها مصر.
- التحرك المصرى فى السودان له محددات وثوابت في مقدمتها أن الحل لابد أن يكون سودانيًا ودون تدخل خارجى لأن السودان دفعت تاريخيًا ثمنًا غاليًا من استقرارها بسبب التدخلات الخارجية..
- المحدد المصرى الثاني هو تهيئة المناخ المناسب للأطراف السودانية للجلوس على مائدة المفاوضات السياسية والابتعاد عن الحل العسكرى الذى يدمر الدولة ويؤدى إلى الفوضى التي لن تكون لها نهاية، وترجمة لهذا المحدد كان التحرك المصرى العاجل بعد بدء الأزمة ومحاولة الحوار مع الطرفين بدعوة من الرئيس عبد الفتاح السيسي ثم مؤتمر دول الجوار الذى انعقد بالقاهرة، والاتصالات المصرية المكثفة لدعم سبل الحل السياسي..
- المحدد الثالث هو الجانب الإنساني، وفتح مصر أبوابها أمام الأشقاء الذين لجأوا إلينا هربًا من الأوضاع المتردية هناك، والأرقام تقول إن مصر استقبلت منذ 15 أبريل 2023 ما يزيد على 400 ألف سوداني، كأرقام رسمية فقط، المؤكد أن الأمن القومى المصرى مهدد بسبب ما يحدث في السودان لأكثر من سبب..
- أولها: أن السودان يتداخل تقريبا مع كل دوائر الأمن القومى المصري، وهذه حالة لا تتكرر مع أي دولة أخرى ولهذا فالطبيعة الخاصة للعلاقات المصرية السودانية حدودًا وشعبًا ومصيرًا وتاريخًا تجعل كل أزمة في أي من الدولتين تؤثر بشكل مباشر وكبير على الدولة الأخري، وهذا ما يحدث الآن مع مصر بسبب ما يشهده السودان من اقتتال وصراع داخلي..
- الثاني: التهديد المباشر لما يحدث في السودان على أمن البحر الأحمر الذي يمثل لمصر صميم أمنها القومى الذى لا يقبل التهاون..
- الثالث: أن الحدود المصرية- السودانية تزيد على 1200 كيلو متر ستكون مهددة بالكامل بسبب الفوضى والمعروف أنه لا يمكن لأى دولة فى العالم مهما كانت قوتها أن تحمى حدودها في ظل غياب الطرف الآخر..
- الرابع: العلاقات التاريخية بين البلدين والتشابك بين الشعبين، وعدد المتواجدين على الأرض المصرية من السودانيين، ومهما تزايدت محاولات الفتنة المتعمدة والإيقاع بين الشعبين تظل العلاقة الأخوية ورؤية المصير المشترك ووحدة وادى النيل والدم والثقافة هى الحاكمة بين مصر والسودان.
ولهذا نجد الجهود المصرية الكبيرة من أجل محاولة التهدئة وإيقاف الصراع، لأنها تنظر إلى السودان باعتباره همًا مصريًا وما يؤلم السودان يؤلمنا وما يهدد مصيره يهدد مصيرنا، ويأتى مؤتمر القاهرة اليوم بحضور ممثلى الكتل السياسية والمكونات السودانية المدنية المختلفة خطوة جديدة ومحاولة مصرية أخرى لإيجاد مساحة حوار للأشقاء ووضع إطار يمكن أن تخرج به السودان من أزمتها، بحلول سودانية بعيدًا عن التدخلات الخارجية التى لا تراعى إلا مصالح الدول الأخرى بعيدًا عن استقرار وسلامة السودان وحياة شعبه.
خلاصة كل ما سبق أن هناك تحديات ضخمة تواجه مصر، والدولة تتعامل معها وتتحسب لتطوراتها، صحيح من حق المواطن أن ينشغل بلقمة عيشه وبالأسعار والكهرباء وغير ذلك من أمور الحياة والمعيشة والاقتصاد.
لكن هناك أيضا أمورًا لا يمكن أن يغفلها المواطن لأن خطرها كبير علينا، وتوابعها كارثية، وخصوصًا على أمننا القومى واقتصادنا ومصادر احتياجاتنا الأساسية، وإذا كانت غزة تمثل تهديدًا لنا فى الشمال الشرقي بسبب مخطط التهجير، فالسودان أيضا يمثل تهديدًا خطيرًا لسيادتنا وحدودنا وأمننا المائي وكذلك أمن البحر الأحمر، والأمر لا يتوقف عند هذا فوفقًا لدراسة حديثة لمعهد الاقتصاد والسلام يوجد في العالم الآن نحو 56 صراعًا، وهو العدد الأكبر للصراعات في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وكل صراع منها مؤهل للانفجار والتحول إلى حرب عالمية، بل إن هذه الصراعات تهدد السلام والأوضاع العامة في 96 دولة تقريبًا.
والأخطر في هذه الصراعات أنه لا توجد قدرة على إدارتها أو تحجيمها ولا توجد مؤشرات على نهايتها بسبب تحول العالم من الأحادية إلى متعدد الأقطاب.
لكن الأهم فعلا وما يخصنا أن 32 صراعًا على الأقل من هذه الصراعات تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على مصر، اقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا، ويكفى أن نعرف وفق هذا التقرير أن الدول الثلاث الأقل سلمية واستقرارًا على مستوى العالم هي على التوالى اليمن ثم السودان الذي وصفه التقرير بأنه يشهد تدهورًا سريعًا وأن إجمالي القتلى فيه كبير، ثم جنوب السودان وهذه الدول الثلاث تمثل أبعادًا مهمة في الأمن القومى المصري.
ولهذا فوسط انشغالنا بما يحدث فى غزة والضفة الغربية، ووسط الضغوط الاقتصادية الكبيرة يجب ألا ننسى التحديات الأخرى التى تواجهنا، وأننا دولة مطلوب منها الاستعداد الدائم والجاهزية لمواجهة المخاطر من كل اتجاه بما يعنيه هذا من تكلفة كبيرة ليست لدينا رفاهية إلغائها، لأنه عندما يكون التهديد لأمن الدولة القومى مباشرًا وبهذا الحجم من الخطر فلا مجال للحديث عن أولويات أخري.