منذ ظهور جائحة كورونا فى مارس 2020، واجه المجتمع الدولى تحديات متعددة الأبعاد، منها الصحية والسياسية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية. فلقد تلا الأزمة الصحية الناجمة عن الجائحة سلسلة من الاضطرابات الجيوسياسية شديدة الخطورة وعظيمة التأثير، منها دخول القوات الروسية إلى شرق أوكرانيا فى فبراير 2022، وتصاعد النزاع المسلح فى قطاع غزة بين حماس وإسرائيل على خلفية أحداث السابع من أكتوبر 2023، وبدعم غربى كامل لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وتصاعد التوترات الجيوسياسية فى البحر الأحمر نتيجة لهجمات الحوثيين على الممرات البحرية الدولية فى أوائل عام 2024، والهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، على خلفية الاعتداء الإسرائيلى على قطاع غزة، وكذلك تصاعد التوترات فى بحر الصين الجنوبى بين الصين من جهة وتايوان والفلبين المدعومتين من الولايات المتحدة من الجهة الأخري. وهذا كله جعل منظومة الأمن والسلم العالمى على المحك، وبصورة لم يشهدها العالم، منذ انتهاء الحرب البادرة فى أواخر ثمانينيات القرن العشرين.
ولقد كان التقدم التكنولوجى دائمًا عاملاً رئيسيًا فى النزاعات على مر التاريخ البشري. ولكن خلال العقدين الأول والثانى من القرن الواحد والعشرين، أثر تطور تقنيات الذكاء الاصطناعى والأنظمة ذاتية التشغيل على حاضر ومستقبل النزاعات. فقد أثار تطور تقنيات الذكاء الاصطناعى اهتمام الأوساط العسكرية والسياسية عالمياً، وقطعاً مع استمرار تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، هناك احتمال متصاعد لزيادة الاعتماد على هذه الأنظمة للحفاظ على منظومة الأمن والسلم الدولى فى صورته الأشمل. ومع ذلك هناك تحديات كبيرة مرتبطة بالتوسع فى تطبيق الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي، فبالنسبة للأفراد والمجتمعات، يثير الذكاء الاصطناعى تحديات كبيرة فى مجالات تتعلق بالتمييز، والمراقبة، والحريات الشخصية والخصوصية. أما من وجهة نظر العسكريين والساسة، فهناك حاجة للاستفادة من تطورات تقنيات الذكاء الاصطناعى لتعزيز القدرات القتالية والدفاعية وحماية مقدرات الأمن القومى للدول.
لذا من الضرورى مراقبة تطور تقنيات الذكاء الاصطناعى والتنبوء بتداعياتها المحتملة على النزاعات المستقبلية، جنبًا إلى جنب مع وضع استراتيجيات لاستخدام تلك التقنيات البازغة لتجنب مثل هذه المواجهات العدائية فى المستقبل.
تطور الذكاء الاصطناعى وتأثيره
على مستقبل النزاعات
سيكون مستقبل النزاعات مدفوعًا بالمصالح الاقتصادية والجيوسياسية. فمن المتوقع أن تسمح الهيمنة على المعلومات عالميًا بالتأثير على الأفراد والمجتمعات والموارد والاقتصاد، لذا فإن الدول الأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية ستتمكن من تحقيق الهيمنة على المستوى الدولى فى جميع المجالات. كما أن الرفاهية الاقتصادية أصبحت ضرورية للحفاظ على بنية الدول وبيئتها الآمنة، وكذلك شبكات التجارة الخاصة بها. لذا يجب على الدول العمل على ضمان السيطرة على استقرارها السياسى والاقتصادي، وهذا للحفاظ قدرتها على النمو، وبالتالى على مكانتها على مقياس التنافسية العالمية. فالدول التى تفشل فى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادى والسياسى ستكون عرضة للحروب، إما على المستوى الأهلى أو الإقليمي، حيث تثير الاقتصادات المنهارة الاضطرابات السياسية والأهلية، واليمن والسودان وليبيا خير مثال لذلك. علاوة على ذلك، من المتوقع أن تنشأ نزاعات إقليمية وعالمية مستحدثة فى المستقبل القريب حول الموارد الأساسية والحيوية، مثل الغاز الطبيعى والنفط، والمياه وإمدادات الغذاء.
وبلا شك التقدم التكنولوجى سيقود بسرعة الصاروخ إلى عصر جديد حيث تندمج التقنيات الجديدة والبازغة، لتؤسس لنماذج أعمال تختلف كل الاختلاف عما ألفته البشرية عبر ملايين السنين، وهذا بالطبع سيغير مستقبل النزاعات. كما سيؤدى هذا التقدم التكنولوجى المذهل إلى بناء قدرات عسكرية ودفاعية ذات طبيعة أكثر تقدماً بصورة غير مسبوقة، بما سيغير القواعد القائمة للعبة. فى المستقبل القريب قبل البعيد، ستتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي، القائمة على الشبكات العصبية ومعالجة اللغة الطبيعية وخوارزميات التعلم الآلي، من التعرف على النوايا المتوقعة والتنبؤ بالأفعال فى المستقبل. علاوة على ذلك، ستغير الروبوتات والأسلحة ذاتية التشغيل والخوارزميات القادرة على التكيف طبقاً لمعطيات اللحظة والأنظمة الذكية تكتيكات الحرب.
بما فى ذلك التنظيمات الارهابية والدول الأقل نمواً، وخير مثال على ذلك هو استخدام الذكاء الاصطناعى فى تطبيقات الطائرات بدون طيار، التى أصبحت متاحة للجميع وبتكلفة قليلة، فى الصراعات الحالية، ومنها الصراع الأوكراني- الروسي، والصراع فى غزة، وتوترات البحر الأحمر الأخيرة. وبالفعل بدأت المنافسة المحتدمة على الأنظمة الدفاعية المحسنة بالذكاء الاصطناعي، لذا، ستعتمد المنافسة المستقبلية فى مجال الذكاء الاصطناعى على من يمتلك القدرة الأكثر ذكاءً والأسرع والأعمق للتدخل أو الوقاية أو التعطيل أو التكيف، لتحقيق التفوق الاستراتيجى والتكتيكى على حد سواء.
وبالفعل بدأ سباق تسليح من نوع جديد، وهو سباق الأسلحة الذكية القائمة على الذكاء الاصطناعي، و قد يعنى ذلك أن الحرب المستقبلية ستكون مأساوية، وذلك فى غضون عقد من الزمان، نظرًا لتطور البنية التحتية المعززة بالذكاء الاصطناعى وانتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعى على نطاق أكثر شمولية واتساعاً. فمن المؤكد أن نظم التسليح بكافة فروعها وأنواعها ستنتقل بالتأكيد من مفاهيم التحكم عن بعد إلى شبه مستقلة، ثم إلى مستقلة تمامًا خلال هذا العقد، لتكون أسلحة ذكية مستقلة أمام أسلحة ذكية مستقلة أخري. ولكن على الجانب الآخر، قد لا تعترف العديد من الدول بهذا التوقع المستقبلى كاحتمال أو كواقع محتمل، وهذا بالقطع سيشكل خطراً على مستقبل القدرة الدفاعية لتلك الدول، فى عالم أصبحت الحروب والنزاعات ومظاهر الاقتتال تبث على الهواء مباشرة من قبل الأفراد على شبكات التواصل الاجتماعي.
وعلاوة على ذلك، أكد تقرير حديث من حلف شمال الأطلسى أن مستقبل التكنولوجيا العسكرية هو فى اندماج الذكاء الاصطناعي، والذى يلعب دورًا حاسمًا فى التكامل العسكرى على مستوى كافة الأسلحة، البرية والبحرية والجوية منها، مع تقنيات أخري، مما يعزز كفاءة المنظومة الدفاعية بشكل غير مسبوق، ولكنه يشكل أيضًا مخاطر يجب الالتفات إليها. كما يتوقع أن يكون تفوق الذكاء الاصطناعى عاملاً رئيسيًا فى تأسيس هيمنة جيوسياسية واقتصادية للدول صاحبة سبل تطوير التقنيات المتقدمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، حيث سيمكنها من السيطرة على البيئة المعلوماتية بشكل فعال، بما يضمن لها التفوق الاستراتيجى على المستويات العسكرية والاقتصادية. لذا أدركت دول مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا ضرورة دمج الذكاء الاصطناعى فى منظوماتها الدفاعية، وبالتالي، من المتوقع أن تسرع الدول ضمن التحالفات الدولية، مثل حلف شمال الأطلسي، استثماراتها فى تقنيات الذكاء الاصطناعى لتعزيز التدابير الأمنية العالمية والإقليمية. لذلك، تركز إستراتيجيات تطوير امكانيات دول حلف شمال الأطلسى على معالجة التحديات المستقبلية، من خلال رؤية استراتيجية تمتد لمدة 20 عامًا بدءاً من عام 2023 وحتى عام 2043، تعزيز قواته وقدراته العسكرية، وتعزيز موقفه الرادع والدفاعي، مما يضمن قدرة التحالف على التكيف مع بيئات التشغيل المستقبلية، لذا سيشهد العقدان المقبلان انتشارا هذه التقنيات فى بيئات متعددة الجوانب، مما يشير إلى تحول فى النمط نحو عمليات عسكرية أكثر تطورًا وترابطًا ودقةً. علاوة على ذلك، فى هذا العصر القائم على تطور تكنولوجى غير مسبوق، تجاوز هذا التطور التكنولوجى الإطارات التنظيمية الحالية، مما يدفع إلى بيئة أكثر تعقيداً ومليئة بالآفاق والتحديات فى آن واحد، بما يتطلب وجود إطار تنظيمى جديد أكثر مرونة ويتماشى مع تلك التطورات التكنولوجية الدائمة. كما سلط هذا التقرير الصادر عن حلف شمال الأطلسى الضوء على ملامح التكنولوجيا العسكرية المستقبلية البارزة، التى تشمل تعزيز الذكاء للآلات وزيادة الترابط واللامركزية والرقمنة الواسعة، كما اعتبر التقرير أن الذكاء الاصطناعى عامل حاسم لمنح الدول ميزات استراتيجية عند دمجه فى أنظمتها الدفاعية، حيث تتجانس وتتكامل تقنيات الذكاء الاصطناعى مع تقنيات ناشئة أخري، بما فى ذلك الروبوتات والحوسبة الكمية والتكنولوجيا الحيوية، مما يؤدى إلى تطور جذرى يساهم فى تعزيز كفاءة وفعالية النظم الدفاعية. ومع ذلك، يتجاوز تأثير تلك التقنيات المجال العسكري، لتشمل مختلف الصناعات ومجالات الأعمال. وهذا سيخلق إمكانية لتعميق الفجوات بين الدول المتقدمة والدول النامية، عسكرياً واقتصادياً، بصورة لم يشهدها العالم، منذ الثورة الصناعية الأولى فى سبعينيات القرن الثامن عشر. وهذا بدون أدنى شك، سيفرض الاستثمار المتزايد، لتحقيق نوع من التوازن قدر المستطاع بين دول الشمال ودول الجنوب. وعلاوة على ذلك، من المتوقع أن يظهر الذكاء الاصطناعى سلوكًا مستحدثاً يتحدى الأنماط المعهودة لدينا، فسيكون للذكاء الاصطناعى تأثير أكثر عمقاً على الأمن العالمى فى مستقبلنا القريب، حيث سيوفر أدوات أكثر دقة للتنبؤ بالنزاعات والتأثير عليها وتوجيهها، وكذا تقليل أثارها، أو حتى منعها قبل حدوثها. كما سيلعب الذكاء الاصطناعى أيضًا دورًا حاسمًا فى التنبؤ بسيناريوهات النزاعات المحتملة وردعها، وأيضاً التنبؤ بنتائج النزاعات، وبالتأكيد فى تنفيذ العمليات الميدانية نفسها. لذا نعتقد أن استخدام الذكاء الاصطناعى فى التسليح، سيتبع مسارًا مماثلاً للأسلحة الأخرى ذات القوة المدمرة مثل الأسلحة النووية، والتى لن تظهر قوتها التدميرية الهائلة إلا بعد استخدامها، كما كان الحال، عند تم استخدام السلاح النووى فى المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية فى عام 1945.
بناءً على ما سبق، يناقش القسم التالى دور الذكاء الاصطناعى فى عملية اتخاذ القرارات فى الحروب المستقبلية.
اتخاذ القرارات فى حروب المستقبل
فى عصر الذكاء الاصطناعى
يعتقد البعض أنها مجرد مسألة وقت قبل أن يقوم البشر بمنح دور اتخاذ القرار للذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، نعلم أننا لم نصل إلى تلك المرحلة بشكل كامل بعد. اليوم، ساهمت التطورات فى مجالات تعلم الآلة والشبكات العصبية القابلة للتكيف فى تسهيل تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعى القادرة على التكيف وتعلم خصائص البيئة المحيطة والتعامل معها بإنشاء حلول مبتكرة، وعلى عكس الأنظمة السابقة للذكاء الاصطناعى التى كانت محددة، تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعى خوارزميات تعمل على تحسين التعلم نحو نماذج الحوسبة العاطفية ووعى الآلةAffective Computational Models and Machine Consciousness. وكذلك تحاكى أنظمة التعلم العميق الاستدلال البشرى باستخدام شبكة متكاملة ومعقدة لفهم المعلومات والبيانات بشكل شامل، لتسهيل التعرف على الأنماط المختلفة، مثل التعرف البصرى وأنماط الكلام. وعلى وجه التحديد، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعى التى تستخدم مفاهيم التعلم العميق التعامل مع طبقات متعددة من المعلومات فى شبكاتها العصبية الاصطناعية لتوليد توقعات استنادًا إلى خوارزمياتها، بما يجعل الآلات لها قدرات مرنة، وهو أمر أساسى لتخطيط وتنفيذ المهام على الأرض. وقد أظهرت المناورات الميدانية فى إظهار قيمة دمج مثل هذه الأنظمة فى أرض المعركة. علاوة على ذلك، أظهر علماء جامعة MIT أن الغواصات غير المأهولة بالبشر (Autonomous Unmanned Underwater VehicleAUV)، والممكّنة بالذكاء الاصطناعي، يمكنها عمل خطط لمهامها وتنفيذها بدون تدخل بشري. وعلى الرغم من وجود مراقبة بشرية للمعدات ذاتية التشغيل حتى الآن، إلا أن التحول إلى اتخاذ القرارات اعتماداً على نظام الذكاء الاصطناعى ستؤثر على مستقبل العمليات الحربية بدون شك، لتؤسس لعصر جديد من النزاعات، يكون لتلك المعدات الحرية فى اتخاذ القرارات الميدانية بحرية، وبدون أى تدخل بشري.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التحول من الحرب التقليدية على ساحات المعارك فى الواقع المادى إلى الحرب السيبرانية قد أضاف بعداً جديداً للصراعات. فى الوقت الحاضر، يتم تنفيذ الحروب التقليدية فى سياق الحروب السيبرانية والحروب غير المنتظمة، ولكن فى المستقبل، ستقاتل الجنود الروبوت العاملة بالذكاء الاصطناعى فى ساحة المعركة أيضاً. كما سيعمل المتحاربون فى كل مجال للحصول على مزايا فى هذا المجال الجديد، لضمان التفوق والهيمنة، ليتم تصعيب الأمر على الخصم لكى لا يقوموا بعكس هندسة شبكات الذكاء الاصطناعي. وعلى الجانب الآخر، سيحاول المتحاربون استغلال الثغرات فى شبكة النظام للحصول على ميزة تضمن التميز والتفوق والمبادرة، لذا ستوفر أنظمة الذكاء الاصطناعى وسيلة لحماية الأنظمة من خلال العمل كمراقب للشبكات فى المستقبل، بدون التدخل البشري، لمتابعة أنشطة المتعاملين مع الشبكات الرقمية، ورصد وتحييد أى اختراقات ممكنة. وفى ذات الوقت، ستحاول الدول بناء أنظمة ذكاء اصطناعى أخرى للبحث عن العيوب والثغرات فى الأنظمة الدفاعية الخاصة بها، لمعالجتها، أو استغلال تلك العيوب والثغرات لدى الدول الأخرى لمهاجمتها. استنادًا إلى ذلك، يجب بناء شبكات الذكاء الاصطناعى لاكتشاف التقليد والخداع والدفاع عن أنفسها ضد الإجراءات العدائية من الدول أو الأفراد الذين يعتزمون اختراق شبكاتها أو السيطرة على نظم الذكاء الاصطناعى التى تتحكم بتلك الشبكات. لذا سيقوم مصممو النظم فى المستقبل بتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعى لكى تكون ذات قدرات دفاعية، وفى نفس الوقت قادرة على مواجهة قدرة الخصوم الهادفة إلى الاستيلاء على النظم لحماية نفسها. لذلك، ستكون الشبكات الذكية أمرًا ضروريًا لحماية الأمن الدولى فى المستقبل.
لذلك يجب على القادة السياسيين والعسكريين أن يعملوا على فهم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى وتأثيرها الاقتصادى والعسكري، لأن عكس ذلك يمثل إمكانية لحدوث عواقب غير متوقعة ستؤثر على مستقبل دولهم، كما يجب على القادة وصناع القرار أن يفهموا قدرات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى لتحقيق التفوق الإستراتيجى والتكتيكي. لذا يجب أن يقدم العلماء والمهندسون للقادة ومتخذى القرار تقنية للتحقق من مصداقية المعلومات من أنظمة الذكاء الاصطناعي، لضمان أن المعلومات موثوقة ودقيقة وقابلة للتنفيذ فى البيئة التشغيلية، وقد يتطلب ذلك من العلماء والمهندسين إنشاء نظم لاتخاذ القرارات على كل مستوى للتحقق من صحة مصدر المعلومات. وعلى الرغم من ذلك، ستظل البيئة التشغيلية فى المستقبل معقدة للغاية، وبالتالى يجب أن تكون القوات على الأرض قادرة على التكيف السريع إذا كانوا يرغبون فى الحفاظ على المرونة اللازمة على المستوى التشغيلي. لذلك، يجب على القادة تقييم المعلومات فى سياق البيئة التشغيلية واتخاذ قرارات فعالة، ولذا ستساهم قدرة كل دولة على تحسين قدرات استقبال المعلومات والعمل على جودة تلك المعلومات وتكاملها لضمان التفوق على كافة الميادين العسكرية منها وغير العسكرية، وتحقيق الفارق على كافة المستويات.
لهذا السبب، يعد دور إدارة التكنولوجيا أمرًا حيويًا للتعامل مع تلك التحديات الجديدة، كما سيتم مناقشته فى الجزء التالي.
دور إدارة التكنولوجيا لحماية الأمن والسلم العالمى فى عصر الذكاء الاصطناعي
من المتوقع أيضاً أن يلعب الذكاء الاصطناعى دورًا حاسمًا فى صياغة الأمن والسلم العالمي، حيث يمكن استخدامه للتقدم الاقتصادي، ومجابهة معضلات الصحة العامة والتغير المناخي، وفى ذات الوقت فى تهديد أمان الدول والمجتمعات على حد سواء. كما أنه من الممكن تطبيق الذكاء الاصطناعى فى مجالات الأمن، مثل الأمن السيبرانى والعسكرى والاستخبارات والدبلوماسية وإدارة النزاعات. وهناك العديد من مزايا الذكاء الاصطناعى لصالح الأمن والسلم الدولي، منها أنه يمكن للذكاء الاصطناعى أن يساعد فى تحسين الأمان السيبرانى من خلال التمييز بين الهجمات السيبرانية والحد منها، وفحص وتشفير البيانات، والتحقق من مصادر المعلومات الموثوقة، كما يمكن للذكاء الاصطناعى أن يسهم فى تعزيز قدرات الجيوش من خلال تطوير الأسلحة ذاتية التشغيل والقرار، وتحسين الوعى التكتيكي، وتحسين عملية اتخاذ القرارات، ويمكن أيضاً المساهمة فى تعزيز الدبلوماسية من خلال تمكين التواصل بين الثقافات المختلفة، والمساعدة فى التفاوض، وتشجيع التعاون وبناء الثقة بين الأطراف المختلفة، ويمكن للذكاء الاصطناعى أن يساعد فى إدارة النزاعات من خلال التنبؤ بالتصعيد وتجنبه، وتقليل العدوان والكوارث الإنسانية، والحفاظ على حفظ السلام وإعادة الإعمار بعد النزاع.
ومع ذلك، يمثل الذكاء الاصطناعى أيضًا تحديات كبيرة للأمن والسلم الدولي، مثل استغلال الذكاء الاصطناعى لأغراض خبيثة من قبل الدول والجهات غير الحكومية، مثل بدء الهجمات السيبرانية، وعرقلة البنية التحتية الأساسية، ونشر المعلومات الخاطئة والدعاية المغرضة، وتوجيه أعمال التجسس والتخريب، ويمكن أن يزيد الذكاء الاصطناعى من المشكلات الأخلاقية والقانونية، مثل انتهاك حقوق الإنسان والخصوصية، وتحفيز أخلاقيات عدم التوازن والتمييز فى الحروب، وكذلك يمكن أن يكون للذكاء الاصطناعى نتائج غير مقصودة وغير متوقعة، تؤدى إلى تداعيات وقد تتجاوز حدود إمكانية السيطرة عليها، لأنها خارج نطاق الفهم البشري.
لذلك، الذكاء الاصطناعى سيف ذو حدين، فهو يمكن أن يحسن ويهدد الأمن العالمى فى ذات الوقت، اعتمادًا على كيفية تطويره واستخدامه. لذا من المهم تحقيق توازن بين فرص الذكاء الاصطناعى وتحدياته، والعمل على ضمان أنه متوافق مع قيم ومصالح البشر. والتأكد من أن الذكاء الاصطناعى متوافق مع قيم ومصالح البشر هو تحدى معقد ومركب يتطلب التعاون والبحث بين التخصصات المختلفة. وبعض السبل المحتملة للتعامل مع هذه التحديات هي: تطوير تقنيات وأطر لتحديد وربط قيم وتفضيلات البشر بأنظمة الذكاء الاصطناعي، مثل توافق القيم، وتعلم التفضيلات، وتعلم الإشارات العكسي، وتعلم الإشارات العكسى التعاوني، وبناء أنظمة الذكاء الاصطناعى التى تكون شفافة وقابلة للتفسير والشرح والمساءلة، حتى يمكن للبشر فهم أدائها ونتائجها، مثل القابلية للتفسير، والذكاء الاصطناعى القابل للشرح.
لذا علم إدارة التكنولوجيا من العلوم الحاسمة لمعالجة التحديات الجديدة التى يطرحها تطور التكنولوجيا بسرعة وبشكل متسارع فى العقد المقبل، كون الذكاء الاصطناعى واحدًا من أبرز وأكثر التقنيات المغيرة لما هو متعارف عليه منذ قرون، حيث يمكنه التواصل والانتشار بسرعة، وتوفير كميات كبيرة من المعلومات المعالجة لمختلف الجهات، مثل الدول والجهات غير الحكومية والأفراد. لذا، من الضرورى أن يفهم صانعو السياسات مبادئ إدارة التكنولوجيا، من أجل ضمان استخدام هذه التقنيات الناشئة بشكل مسئول وأخلاقي، والتى قد تكون لها عواقب قاتلة إذا تم استخدامها بشكل غير صحيح أو تعسفي، مع تعزيز الابتكار والإبداع. وهذا يتطلب تطوير أساليب جديدة لتقييم أداء الذكاء الاصطناعى والتقنيات الناشئة الأخرى التى قد تؤثر على مستقبل الأمان العالمي. إنها مهمة تمثل تحدى ليس بالتحدى البسيط، خاصة بالنسبة للتقنيات الناشئة الجديدة التى لم يتم اختبارها فى بيئة تنافسية والتى قد تتطلب معايير مختلفة لسياقات مختلفة.
علاوة على ذلك، يجب أن تستكشف الدول إمكانية التحالف كإستراتيجية للتعامل مع تحديات وفرص التكنولوجيا الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي، بدلاً من الانخراط فى التنافس غير الصحي. كما أنه هناك دائمًا تحدى فى تخصيص الموارد البشرية والمالية والمادية النادرة بكفاءة وفعالية، مع التعامل مع التنافس المكثف والمستمر، والتى قد يؤدى إلى خلق مستوى عالٍ من عدم الأمان وإخلال تماسك الصناعات الحالية. لذا، من الضرورى إقامة تحالفات فى مشاريع محددة بين المنافسين على المستوى الوطنى والمستوى الدولي، لتوفير بدائل ناجحة وتحقيق نتائج بحث وتطوير مثلي. علاوة على ذلك، من المهم توحيد شكل الاتفاقيات، لتسهيل المفاوضات حول المنتجات والتقنيات الجديدة التى قد تكون لها آثار على الأمن العالمي، سواء فى الحاضر أو فى المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، يجب فحص تأثير المبادرات الحكومية (مثل حاضنات الأعمال) على إدخال التقنيات الجديدة، واستعداد الشركات التكنولوجية الكبيرة لمفهوم الابتكار المفتوح، وتطوير منهجيات أكثر فعالية لأنشطة الشراكة المشتركة التى تعزز الابتكار بناءً على التعاون بين الحكومات والشركات الكبيرة والشركات الناشئة، مستفيدين من قوة كل منهم وتعويض ضعف كل منهم من خلال التكامل المثمر. وعلاوة على ذلك، يجب وجود آلية لمشاركة نتائج البحث أو التقنيات العامة من خلال تلك التحالفات، مع إعادة النظر فى التشريعات الحالية المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية، للتحقق من مدى تسهيل أو عرقلة مثل تلك التشريعات للتعاون بين أصحاب المصلحة المختلفين، على الصعيدين المحلى والدولي.
هذا هو عادة دور التكنولوجيا الرشيدة، وقادة العالم فى العصر الرقمي، نحو بناء التقنيات التى تخدم ازدهار البشرية وليس العكس!