منذ بداية النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضي، بدأ فى بعض الأوساط السياسية العربية حديث على استحياء حول صياغة جديدة للمواقف العربية من إسرائيل والقضية الفلسطينية.
كان النصف الأول من التسعينيات قد شهد غزو الرئيس العراقى صدام حسين للكويت، الذى أحدث شرخاً كبيراً فى جدار الأمن القومى العربي، كما شهد توقيع اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل وهو الاتفاق الذى أفضى مع بدايات النصف الثانى من التسعينيات إلى انتخاب الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات رئيساً للسلطة الفلسطينية التى نشأت بمقتضى الاتفاق، ثم وصول بنيامين نتنياهو وحزبه ـ الليكود إلى السلطة فى إسرائيل.
كان من يتحدثون عن هذه الصياغة الجديدة للمواقف العربية من إسرائيل والقضية الفلسطينية يبدأون حديثهم بتقديم الحجج التى يستندون إليها.
قالوا إن نصف قرن من ربط العالم العربى كله مصيره بمصير فلسطين والقضية الفلسطينية لم يحرر فلسطين، بل ولا اقترب بها من هدف التحرير، ولم يضر إسرائيل كثيراً، فهى تعتمد على الولايات المتحدة والغرب الذين يعتبرون أمنها جزءاً من أمنهم، بينما كان العالم العربى الطرف الوحيد المضار، فى اقتصادياته، وفى علاقاته الخارجية، وفى قدرته على تحقيق التنمية والتقدم للدولة والديمقراطية لشعوبه.
قالوا إن أكبر دولة عربية، وهى مصر، وقعت سلاماً مع إسرائيل، وسواء كان هذا موقفا اضطراريا بدافع من رغبتها فى استعادة أرضها المحتلة فى سيناء التى حاربت من أجل تحريرها، أو ظل هذا السلام «حكومياً» بعيداً عن التطبيع الشعبى المرفوض، فإن مصر استفادت من هذا السلام، وتمكنت فى ظله من التفرغ للتنمية والبناء.
قالوا إن الفلسطينيين أنفسهم لا يبدون الحرص الذى يبديه العالم العربى على قضيتهم، بدليل انقسامهم الداخلى بين حركات وفصائل متناحرة تعلى كل منها مصالحها الضيقة على مصلحة الشعب الفلسطيني، حتى أنهم أعطوا لإسرائيل مبررا لتجميد عملية السلام بالقول إنها لا تجد «شريكا» للسلام حتى تتعامل معه.
كان مضمون هذا الطرح يقود بوضوح إلى نتيجة واحدة، وهى «فك الارتباط العربى بالقضية الفلسطينية».
لم يكن أحد من مروجى هذه الحجج يعترف بذلك صراحة، بل كانوا يؤكدون ـ فى محاولة لتجميل هذا الطرح ـ إن فك الارتباط مستحيل، وأن هذا الارتباط قدر مقدور ومسئولية قومية.. إلى آخر هذه الشعارات، وأن المطلوب فقط التخفف من بعض القيود التى لم تعد مناسبة للواقع العملى للعلاقات الدولية، ولا لما آلت إليه القضية.
بمعنى أنه من حق كل دولة عربية أن تضع مصلحتها وشعبها فى المقام الأول فى علاقاتها الإقليمية والعالمية، وأن أسلوب المقاطعة العربية الجماعية لإسرائيل لم يعد مفيداً ولا مناسباً، وكذلك ردود الفعل الحادة التى كانت تقضى بقطع العلاقات مع أى دولة تساند إسرائيل أو غير ذلك لم يعد لها مكان.
وأزعم أن مفكرنا الكبير الدكتور مصطفى الفقي، من خلال وجوده فى دهاليز السياسة العربية وعلاقاته برموزها وتياراتها منذ بداياته، كان أول من كشف هذا التوجه فى حينه، وضرورة الاستعداد له، وكنت حاضرا فى أحد أحاديثه الجانبية مع مجموعة من زملائنا أعضاء جمعية خريجى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
هذا الطرح، هو ما ظل ينمو ويترعرع فى البيئة السياسية العربية، على المستوى الرسمى على الأقل، ويتحول من نطاق التسلل الخفى للمواقف والقرارات، إلى أن أصبح أشبه بإستراتيجية عامة معلنة على مستوى الواقع العملي، بعيداً عن التصريحات المعلبة التى لم تعد تحرك القضية الفلسطينية سنتيمتراً واحداً إلى الأمام.
أسقط هذا التوجه الشروط العربية المتفق عليها، سواء مبدأ «الأرض مقابل السلام»، والذى تسانده قرارات الشرعية الدولية القاضية بضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضى العربية التى احتلها فى 7691، أو الشرط الذى نصت عليه المبادرة العربية المطروحة على الطاولة منذ مطلع القرن الحالى كثمن للتطبيع العربى مع إسرائيل.
تراجعت المواقف العربية من القضية الفلسطينية، حتى فى ذروة حرب الإبادة الجماعية والتجويع والتهجير، إلى ما دون الحد الأدني، وبالتصريحات فقط دون الفعل.
تبدأ التصريحات بـ «ندين.. نرفض.. نستنكر.. ندين بأشد العبارات.. ثم تنتهى بمطالبة المجتمع الدولى بأن يتولى هو التصرف.
ويا للغرابة.. تبلّد الموقف العربى أمام ما يجرى على قطعة من أرضه.. بينما اهتز الضمير الإنسانى لشعوب غير عربية، بل ولحكومات كانت من أقرب الأقربين لإسرائيل.
دولة غير عربية هى التى تولت نقل قضية حرب الإبادة الجماعية التى ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين، إلى المحاكم الدولية.. العدل والجنائية الدولية، وكانت سببا فى صدور وثائق وأحكام، تنص على حقوق الشعب الفلسطينى فى أرضه ومسئولية دولة الاحتلال القانونية والأخلاقية تجاهه، وتعتبر رموز الاحتلال نتنياهو ووزير دفاعه مجرمى حرب مطلوبين أمام القضاء الجنائى الدولي.
دول أجنبية أوقفت إمداد إسرائيل بالسلاح.. دول أجنبية قاطعت المنتجات الإسرائيلية الصادرة من المستوطنات فى الأرض المحتلة.. حكومات أجنبية فتحت ميادينها وشوارعها أمام مظاهرات شعوبها المعارضة لإسرائيل والمؤيدة لحقوق الفلسطينيين.
مؤتمر قمة بغداد العربي، كان تجسيداً حياً لحصيلة الحصاد المر لهذا التوجه.. سواء فى مستوى تمثيل الدول الأعضاء فيه، أو فى بيانه الختامى الذى أعاد نسخ قرارات ما سبقه من قمم عربية.
غاب مصطلح الوطن العربى والأمة العربية.. توارت مفاهيم الأمن القومى العربي، إلا من صوت واحد هو صوت مصر الذى تحدى منفرداً ـ هذا السياق، رافضا منطق التفريط فى القضية وحقوق الشعب الفلسطيني، ولو «طّبعت» كل الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل.