أواخر الصيف الماضى، كانت لى رحلة بصحبة أوائل الثانوية العامة إلى العاصمة الألمانية برلين، ضمن البرنامج التثقيفى والترفيهى الذى تنظمه جريدة الجمهورية منذ الستينات لأبناء مصر المتفوقين، كحافز لهم على مواصلة التفوق واكتشاف الحياة بطريقة تتناسب مع المرحلة التى سيقدمون عليها، ليكونوا قادرين على اتخاذ قرارات مصيرية بمفردهم.
ضمن برنامج الرحلة كانت لنا وقفة على بحيرة تيجل، والتى نجحت الطبيعة على جانبيها فى رسم لوحة فنية مبهجة، تلاحمت فيها الأشجار مع مياه البحيرة التى احتفظت بحالة من الأمان لمن سكنها من البط والبجع وغيرها من الطيور على مدار السنين.
حالة الاسترخاء التى عشتها جعلتنى أتمنى لو أجد مكاناً فى مصر يسمح لى بقضاء نزهة بحق، وفى نفس الوقت لا يتطلب منى الأمر دفع مئات الجنيهات، فالمكان مفتوح للجميع، ويمكنك إحضار أطعمتك والجلوس على المقاعد الخشبية المنتشرة على ضفاف البحيرة لتناولها ثم التريض فى الممرات الممهدة بطول الحدائق أو بجانب البحيرة، وفى حالة رغبتك فى الحصول على مشروب فالأمر لن يتعدى يورو أو اثنين فى الكافتيريات الصغيرة الموجودة فى المكان.
زحام القاهرة وحالة الصخب التى فرضتها علينا أحداث الحياة، دفعتنى لإصدار فرمان لأفراد أسرتى بالحصول على أجازة لمدة 24 ساعة والذهاب إلى عروس البحر المتوسط قبل أن يمتد إليها زحف البشر فى أجازة الصيف، ويتحول الأمر لحالة من الاختناق.
فى الطريق إلى الإسكندرية، استرجعت ذكرياتى الممتدة فيها عبر مراحلى العمرية المختلفة لأتوقف عند تلك الرحلة التى ذهبت فيها إليها فى المرحلة الثانوية وكانت خلالها زيارتنا لحديقة المنتزه بأشجارها النادرة، ومبانيها الأثرية ومشهد البحر وهو يتلاحم مع خضرة حدائقها الممتدة على مساحات شاسعة، وتذكرت نزهتى فى بحيرة تيجل فكان الفرمان الثانى باختيار حديقة المنتزه لقضاء يومنا.
على الأبواب كانت الأعداد كبيرة، ربما لأن اليوم أجازة رسمية فدلفنا بالسيارة من البوابة الرئيسية، وقطعنا تذكرة دخول بقيمة خمسين جنيها للفردا ومثلهم للسيارة حتى يمكنها الانتظار فى جراج متعدد الطوابق أفسد المشهد فى مدخل الحديقة، وربما سيكون الأمر أفضل لو تم تشييده أسفل الأرض ليحتفظ المكان بطبيعته.
للوهلات الأولى شعرت بإحراج شديد أمام إصرارى على الذهاب لحديقة المنتزه وأنا أشاهد هؤلاء الذين يجرون الكراسى البلاستيكية من سياراتهم للجلوس عليها، وغيرهم الذين افترشوا الملايات على الأرض ومن حولهم بقايا الأطعمة التى تناولوها فى مشهد سيئ.. موقف لا أحسد عليه وضعت نفسى فيه أمام صغارى الذين صدعتهم بحديثى عن ذكرياتى فى هذا المكان ونحن فى الطريق إليه، ولم يخرجنى من المشهد غير سيارة كهربائية أخذتنا فى جولة فى بعض الأماكن مقابل مائتى جنيه لمدة ربع ساعة وجدنا أنفسنا بعدها فى مواجهة البحر إلا أن الاقتراب منه كان ممنوعاً بفعل بعض الممرات الخرسانية التى أثرت على جمال الحديقة ورفعت شعار ممنوع المرور ولا أعرف السبب.
استراحة محارب قضيناها فى إحدى الكافتيريات التى سمحت لنا برؤية جزء من البحر بعد أن أبلغنا العاملين فيها أننا نريد تناول الطعام، حيث تناول المشروبات فقط سيجعلنا نجلس فى منطقة آخرى.. كل شئ فى هذا اليوم لم يكن فى صالحى، حتى القصر أغلق أبوابه أمامى ولم يكن مسموحاً سوى التقاط مجموعة من الصور من خلف أسواره، والترام الأثرى الذى كان يميز الحديقة توقف عن السير ووقف عاجزاً عن صد عبث الأطفال بعرباته.. فى المساء كان المشهد أكثر قسوة حيث أطنان القمامة التى تنتشر فى كل مكان.. فوجدت نفسى أردد: من تيجل للمنتزه يا قلبى احزن.