ساعات قليلة كانت تفصل بين لقاء رئيس وزراء مصر مع مجموعة من كبار الصحفيين والإعلاميين.. وبين افتتاح مهرجان المسرح القومى فى دورته رقم «17»، وبين أنشطة وفعاليات مهرجان العلمين، وبين التجهيز لافتتاح مهرجان القلعة السنوي.. وفى كل هذا وقبله لم يتوقف نشاط مسرح الدولة بكافة أجنحته حتى فى أحلك الظروف وأصعبها التى مرت بها البلاد، خاصة فى فترة «كورونا» التى أغلقت كل الأبواب على الناس جميعاً..
لم تكن صدفة أن يتحدث د.مصطفى مدبولى فى لقائه المطول، الذى استغرق ثلاث ساعات وشوية، عن دور مصر الريادى فى الفن والثقافة وكيفية استعادته بقوة بلادنا الناعمة، وقد تزامن مع ذلك وجود بعثة رياضية ضخمة فى دورة باريس الأولمبية.. وتاريخنا حاضر فى الملعب والاستديو، وتلك هى ثروتنا العظيمة التى لا تعادلها أخرى فى المنطقة كلها.
والحديث يطول والأنشطة تتعدد فى أرجاء الوطن طوال العام.
اسمها سميحة
دورة المسرح القومى تحمل اسم «سميحة أيوب».. ولأن الفنون كلها تولد من المسرح وتكبر تحت جناحه، استهل المهرجان دورته بعرض فيلمه الذى كتبه نادر صلاح الدين بعنوان «سيدة المسرح العربي» وأخرجه أشرف فايق، واستعرض تاريخ الفنانة التى تعكس حال الفن كله، عبر مشوارها الحافل والمكلل بالاحترام والمصداقية.. وأذكر أثناء حضورى مهرجان المسرح العربى فى بغداد عام 1986، أن خرجت فى جولة مع الأستاذة وكوكبة من الأكابر حمدى غيث وأحمد مرعى وأحمد ماهر، ووصلنا إلى شارع فى وسط بغداد يسمى «المربعة» وهو يوازى أشهر شوارع المدينة وهو الرشيد، واستقبلت جموع المصريين الموجودين الست سميحة بالتهليل والترحاب، وقد تحول الشارع إلى قطعة من بلادنا فيها الفول والكشرى وأغلب من كانوا هناك بسطاء عمال وصنايعية، لكنهم تحدثوا مع أهل الفن بكل وعى وكلموهم عن أعمال لهم فيهم من نسيها ومشاهد مستقرة فى الوجدان، ومصر عن بُعد لها وحشة غريبة ورعشة تهز البدن والروح، حتى لو كنت قد تركتها من ساعة.
فى الرحلة هذه عرفت الأستاذة ومكانتها على المستوى العربى وتواضعها الجميل.. وكانت الصدفة السعيدة اللقاء الذى جمعنى بها كمؤلف فى مسلسل تليفزيونى كوميدى مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الكبير يوسف إدريس وعنوانه «مشوار» ولعب بطولته نجاح الموجى وهالة صدقى وأبوبكر عزت وحسن مصطفي، وأخرجه حسن بشير.. وبعده كلفتنى بكتابة عمل كوميدى لها وكانت خارجة من تجربة شهيرة بعنوان «مغامرات ذكية»، وبدأت أتواصل معها حتى خرج السيناريو بعنوان «سنية النقابية»، وقد رفضته الرقابة وقتها لأنه يتناول خصخصة مصنع الحديد والصلب فى حلوان، وطلبت منها اللجوء إلى الكاتب الكبير سعدالدين وهبة «زوجها»، ولكنها رفضت وكانت كلمة منه كفيلة بإنهاء أزمة المسلسل المتعثر، وكان وقتها يشغل موقعاً مهماً فى مجلس أمناء الإذاعة والتليفزيون.
عرفتها مثقفة امرأة واضحة لا يعجبها الحال المايل ويكفى انها الوحيدة التى تولت رئاسة المسرح القومى بنجاح وشاهدت كيف يقابلونها فى كل عاصمة عربية.. وكان البعض يطلق على الفنانة السورية الكبيرة منى واصف «سيدة المسرح العربي»، ولما رأيتها تقابل سميحة أيوب، سمعتها تهمس إليها وإلى كل من حولها: للمسرح العربى سيدة أولى هى سميحة، لا ينافسها فى ذلك أحد، ولا يمكن أن نغالط فى هذا.. وهؤلاء هم الكبار فى سلوكهم وفنهم، لأن المسألة لا تتجزأ.
يستحق نادر صلاح التحية والتقدير بالفيلم الذى قدمه عن نجمة الدورة وأيضا بالعرض الذى شهده الحضور بعنوان «أستاذ جمهور» والمعنى بليغ وعظيم ويشير إلى أهم أضلاع العملية الفنية وهو صاحب الجلالة المتفرج الذى يجب احترام ثقافته ووعيه وهويته.. وهنا نعود مرة أخرى إلى كلمة رئيس الوزراء د.مدبولي.
وبين دار الأوبرا، حيث افتتاح مهرجان المسرح، والعلمين حيث النشاط السياسى والفنى والسياحى وبالاسماء المحترمة التى اجتهدت فى إخراج المهرجان فى أحسن صورة ولو توفرت له المزيد من الإمكانات المادية لرأينا العجب كما قال محمد رياض وياسر صادق رئيس المهرجان ومديره.. والجيش العامل فى الأنشطة المتعددة والمطبوعات عن المكرمين «أحمد بدير، أحمد آدم، سلوى محمد علي، أسامة عباس، عاطف عوض، عزت زين، حسن العدل، احمد الأبياري، نجوى عانوس، عبدالله سعد».. والمهرجان كما قال «رياض»: ليس احتفالية فى الافتتاح، لكنه الحدث الفنى الذى يؤكد للجميع أن مصرنا هى صانعة الحضارة فى المنطقة ولا يمكن أن نتنازل عن هذا فى كل الميادين ونحن نقدر.
وهذا هو دور الفن بكل ألوانه لكى يطلق دائماً وأبداً شرارة الابتكار والتقدم والرقي.. ومثل هذا المهرجان كان يحتاج إلى تغطية إعلامية حية تليق بمقامه وتنقل ما يدور فى محاوره الفكرية المهمة، حتى لو تم تخصيص القناة الثقافية بكامل وقتها وبرامجها للحدث.. ولا يكتفى الأمر على نقل بعض الفعاليات.
الكبيرة.. فى كل شيء
فى دراسة نشرتها مجلة المهرجان بقلم الناقد أحمد خميس عن سميحة أيوب بنت شبرا، التى تحولت إلى مدرسة شاملة فى الأداء، كما تنوعت أعمالها.. فلم تقبض على دور الأنثى الجميلة فقط، ولا شغلت نفسها بأدوار البطولة.. فإذا البطولة تركع تحت قدميها، حتى فى البطولات الجماعية «كوبرى الناموس، سكة السلامة، السبنسة، السلطان الحائر»، فهى تؤمن بأن العمل الفنى هو حصيلة جهد جماعي، وقد تعلمت ذلك من أستاذها زكى طليمات.. ولا بأس أن تعمل مع مخرج شاب مثل محمد عمر وهى التى عملت مع سعد أردش وحمدى غيث وكمال ياسين وكرم مطاوع ونبيل الألفي.
إنها الفنانة التى تربت على احترام كلمة المؤلف، طالما قبلت أن تنطق بها.. فهى تعيش كل كلمة وتحاول أن تجسدها بكل ما تملك من خبرات وطاقة، بلا غرور أو تعالٍ.. فهى الأسطورة والمايسترو كما قال عنها الناقد عبدالغنى داود والناقد جلال العشري.. إنها تعترف رغم كل ما حصدته من نجاحات، بانها مازالت تتعلم حتى تتجدد ولا تحصر نفسها فى قالب جامد لا تغادره.. فهى جليلة بنت مُرة فى مسرحية «الزير سالم»، وهى عزيزة فى مسرحية «بير السلم»، وهى إيزيس فى مسرحية توفيق الحكيم، وهى الغانية الحكيمة فى مسرحية «السلطان الحائر»، وهى ست الملك وصفية فى «دماء على أستار الكعبة» و»رابعة العدوية».
ومع ذلك، قالت بكل تواضع فى مذكراتها إنها لم تلعب دور البطولة فى السينما إلا من خلال عمل واحد بعنوان «إفلاس خاطبة» عام 1964.. فهل تعلم انها إلى جانب الإدارة والحضور كممثلة فى الإذاعة تعطل حركة المرور فى شوارع القاهرة عند الخامسة والربع موعد مسلسل «سمارة» فى الستينيات، فقد مارست الإخراج فى عملين.. لكنها عادت إلى قواعدها وقد أنتجت على نفقتها مسرحية «ليلة الحنة» للكاتبة فتحية العسال.. إنها صورة تلخص لك حالة الفن المصرى بين أمس واليوم وغداً.