يقول الاستراتيجيون عن قوة الدولة:.. إنه كلما قويت الأطراف كانت قوة النواة وصلابتها، وهنا القصد فى مدى اهتمام الدولة –استراتيجيًّا– بحدودها، أرضًا وشعبًا؛ فقوة الدولة ليست فحسب فى عاصمتها ومركز إدارتها، بل أيضًا فى قوة تخومها، كما أن القوة هنا ليست فى صلابة القلاع والجدران الحامية لحدود الدولة، بل أيضًا فى صلابة بناء إنسان هذه الدولة.. وهنا تكمن القوة الحقيقية وتتضح بجلاء فى هذا الإنسان صاحب الوعى والوجدان والفكر والفعل الوطني، ولا يتأتى هذا بغير الثقافة، فلا تستطيع دولة مهما بلغ تصنيفها العسكرى من قوة ومنعة أن تستنفر مدى الحياة، فالغلبة –ولا شك– فى مدى تحضر الإنسان وإدراكه بقضايا وطنه.
والاستدلال هنا فى أدبيات عباقرة الفكر الإستراتيجى الذين تحدثوا عن نظريات الحرب وفنونها، أمثال: صن سو، ليدل هارت، كلاوتز فيتس، جون بوفر، بل وأيضًا عند ميكيافيلى فى كتابه «فن الحرب»، الذى لم يأخذ نصيبًا من ذيوع الصيت عند العامة كما كتابه «الأمير»، إلا أننى توقفت عند نصيحة فريدريك الثانى عندما رزق بمولود فكانت نصائح رجال بلاطه، أن يتفرغ لبناء الأمير الجديد وولى العهد نخبة من الفرسان والساسة، إلا أن والده قال: «.. بل مع هؤلاء –أيضًا– أساتذة الفلسفة والشعراء وكُتاب التاريخ». ولما بدا السؤال –الاستنكاري– فى أعين رجال البلاط والبطانة وهو المسكوت عنه ولم يستطيعوا إعلانه، أجابهم فريدريك الثاني: «من المهم فى بناء الجيل الجديد أن يملك الرؤية، ولن تأتيه إلا من الفنون والآداب والتاريخ والفلسفة».
وهنا نتصفح كتاب «حضارة العرب» للمستشرق المولع بالثقافة العربية «جوستاف لوبون»؛ إذ يتحدث عن روجر الإمبراطور وخلفائه من بعده جوردون، ومنهم فردريك الثانى «1194-1250» الذى كان ملكًا من سلالة الملوك الألمان المعروفة باسم هوهنشتاوفن، وكان مولعًا بعالم العرب، حتى أنه تحدث لغات أوروبا ومنها الألمانية –لغة والده– والنورماندية –لغة والدته– والعربية– التى من خلالها غاص فى فنون وآداب العرب-»!».
ونعود لقوة الدولة وقوة الثقافة؛ فكما كان مهرجان العلمين فى نسخته الثانية الأكثر نضجًا وألقًا ونجاحًا علامة فارقة فى إعادة بزوغ قوة الدولة الناعمة، ولم يكن حضورًا مظهريًّا بل فاعلاً ومؤثرًا فى دلالته على إستراتيجية الدولة فى تحقيق بناء –حقيقي– للإنسان، وهكذا أيضًا كان معرض كتاب السويس فى نسخته الثانية –أيضًا– من دلالات هذا البناء للإنسان صاحب الجمهورية الجديدة، فقد خرج معرض كتاب السويس عن أطر النمطية، وتجاوز حد العرض –السلبي– للكتاب، بل حمل بين جنباته فقرات فنية ذات رسالات واعية بمتطلبات بناء الإنسان –الجديد– فقرَّبت ثقافة الوطن بين فنونه الريفية والشعبية والساحلية، فجاءت إلى السويس فرق الفنون من الشرقية والإسماعيلية والقاهرة وغيرها من المحافظات التى أظهرت مدى ثراء التنوع الفنى لهذا الوطن، بل قربتها الثقافة الواعية بحقيقة مفهوم الدولة المتماسكة، ولجمهوره فرقة فنية من الأطفال أصحاب الاحتياجات الخاصة من أبناء السويس فى تابلو كاستعراضى غنائى «الليلة الكبيرة» للرائع الخالد صلاح جاهين؛ فكانت سهرة فنية على ضفاف قناة السويس ونعود للأطفال أصحاب المواهب الفذة من أبناء السويس الذين قدمتهم «جمعية الصفاء»، وهى أحد كيانات المجتمع المدنى فى السويس الدالة على صدق وفاعلية إطلاق الرئيس السيسى لعامين هما «عام ذوى الاحتياجات الخاصة» و»عام المجتمع المدني»، وكأن هذا الحفل هو نتاج وثمار هاتين المبادرتين؛ فقد لفت هؤلاء الأطفال الموهوبون من أصحاب الاحتياجات الخاصة النظر والاهتمام بحتمية وجودهم فى واقعنا الحاضر ومستقبلنا القادم، فهكذا يكون بناء الإنسان المصرى دون تفرقة فى انتمائه المحلى الجغرافى أو ظروفه التى حباه الله بها من إعاقة أو غير ذلك، فالكل تحت علم الوطن سواء.