كنت جالسا مع صديقى الطبيب الجراح فى مكتبه الخاص بالمستشفى الذى يعمل به، عندما اقتحم المكان أحد الأشخاص دون استئذان ليطرح سؤالا لخص كل ما يشعر به من جزع وفزع: «هل هناك أمل يا دكتور؟، من فضلك قل الحقيقة، أعرف أن حالة زوجتى شديدة الخطورة، أعرف أن هذا المرض اللعين ليس له علاج، وبرغم ذلك أريد منك أن تخبرنى بكل شىء».
قال صديقى الدكتور بعد ارتسمت على وجهه ابتسامة لا تتناسب مع الموقف: كل ما سأقوله لك الآن لن يكون مقنعا.. أنت قررت أن الحالة ميئوس من شفائها، ولو قلت لك أن مشيئة الله فوق حسابات البشر وأنه تعبير حالة مستعصية غير قابلة للشفاء يقصد به أن قدرات الطب والأطباء غير قادرة على التعامل مع المرض، دون التطرق إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى ولا إلى إرادة الحياة عند المريض.. لو قلت لك ذلك لاعتبرت ما أقول «كلام دكاترة» ومحاولة للمواساة.. لذلك سأحكى لك قصة واقعية عشت تفاصيلها بنفسى وشهودها مازالوا أحياء يرزقون.
حدث ذلك قبل حوالى ثلاثين عاما، عندما كنت طالبا فى كلية الطب، كنت أقضى جانبا من فترة الامتياز فى قسم جراحة العظام، وفى احد الأيام وأثناء المرور التدريبى على المرضى استوقفتنا حالة مريضة سنطلق عليها اسم أمل، كانت فتاة جميلة فى العشرين من العمر، أصيبت قبل عامين بورم ظاهر فى ذراعها اليمنى وبالتحديد فى منطقة الساعد، وخضعت لعملية استئصال جراحى فى مستشفى خاص، وبعد عدة شهور ظهر الورم مرة أخرى فتم استئصاله جراحيا ليتكرر نفس الموقف مرة ثالثة.. قبل أن تتوجه إلى قسم العظام فى المستشفى الجامعى.. لتكتشف اصابتها بورم سرطانى خبيث جدا.. وكان القرار بتر ذراعها بالكامل لإنقاذ حياتها.. ورفضت أمل بإصرار، قالت إنها تفضل الموت بذراعيها عن العيش بذراع واحدة، طلب الأطباء استدعاء ولى أمرها ليكتشفوا أن والدها يعمل فى الخارج وأن أسرتها تقيم معه وأنها مقيمة فى المدينة الجامعية، ولم يكن ممكنا إجراء الجراحة بدون موافقة كتابية منها أو من أحد أفراد أسرتها، فتم تحويلها إلى قسم العلاج الكيمائى والإشعاعى بالمستشفى الجامعى، وقرر أطباء القسم أن السرطان الذى تعانى منه أمل لا يستجيب للعلاج الكيميائى أو الدوائى.
ما لفت اهتمامى الشخصى الى هذه الفتاة، أن ملامحها لم تكن توحى بحجم معاناتها، كانت مرحة، واثقة من أنها ستجتاز محنتها، كانت متفائلة رغم كل شىء، يومها شعرت أنها ستنتصر فى معركتها، ولم يكن لدى سبب منطقى لهذا الشعور.
رئيس قسم العلاج الإشعاعى بالمستشفى والذى كان يتابع حالة أمل، قرر إخضاعها للعلاج الإشعاعى رغم قناعته العلمية بأنه غير مجد، قرر أن يمنحها فرصة أخيرة حتى ولو كانت مستحيلة، كان يؤمن بأن إرادة الله فوق كل شىء، وخضعت أمل لجلسات علاج إشعاعى مكثفة، لتحدث المفاجأة التى أذهلت الجميع: الورم يتراجع، يضمر، يتلاشى، يختفى.. شفيت امل تماما.. كيف؟، حتى الآن لا أحد يعرف.. هل كان العلاج الإشعاعى مؤثرا أكثر مما كان يتوقع الأطباء، هل تكفل جسمها بالتعامل مع الورم واستعان بكل قدراته الكامنة على الشفاء الذاتى، هل ساعدتها مشاعر الرضا واليقين التى تحلت بها حتى فى أصعب اللحظات، لا إجابة على أى من التساؤلات السابقة سوى جملة واحدة: مشيئة الله فوق تدابير البشر.