كانت المعارك الأدبية التى نشبت بين سادتنا وكبرائنا من عظماء الفكر والثقافة العربية فى القرن الماضى هى المعين الذى نستقى منه نفائس القصص وعظيم المواقف، كانت الاشتباكات الفكرية على أشدها بين الرافعى الذى كانت معاركه تنصب حول قضية اللغة العربية والهوية الشرقية والحفاظ عليهما من دعاوى التغريب والتجريف والتحريف وكان معه فى هذا المضمار زكى مبارك وآخرون بينما كان على الطرف الآخر من النهر الدكتور طه حسين وسلامة موسى واحيانا العقاد، هنا أتوقف عند المعركة الطاحنة التى نشبت بين الرافعى وطه حسين والتى بدأت مبكرا حينما صدر كتاب «تاريخ آداب العرب» للرافعى فى عام 1912، فكتب طه حسين مقالا فى «مجلة الجريدة» ينتقد فيه الكاتب والكتاب بشكل شديد السخرية، وقال «انه لم يفهم من الكتاب حرفا واحداً والكتاب فى مجمله يدعو للجمود والتخلف» وهنا انبرى الرافعى يرد الصاع صاعين مهاجما طه حسين ويصف أسلوبه فى الكتابة بالركاكة والتكرار وشبه كلام طه حسين كأنه «يمضغ الكلام مضغا»، وهنا لم يقف طه حسين مكتوف اليدين بل استغل صدور «رسائل الأحزان» للرافعى وانتقد تلك الرسائل انتقاداً تخطى حدود النقد الساخر، فكتب يقول «نظلم الأستاذ الرافعى إذا قلنا إنه لا يشق على نفسه فى الكتابة والتأليف: بل أنت تنصفه إذا قلت إنه يتكلف من المشقة فى الكتابة والتأليف أكثر مما ينبغي. ولو كنت أريد أن أقول إنه ينحت كتبه من الصخر ولكنى لا أجد فى هذه الجملة ما ينبغى لوصف هذه المشقة. وما لى لا أتبسط معه بعض الشيء فأقول إن كل جملة من جمل هذا الكتاب تبعث فى نفسى شعوراً قوياً مؤلماً بأن الكاتب يلدها ولادة. وهو يقاسى من هذه الولادة ما تقاسيه الأم من آلام الوضع، يجب أن أكون منصفاً فأنت تستطيع أن تقطّع كتاب الرافعى جملاً جملاً، وأن تجد بين هذه الجمل طائفة غير قليلة فيها شيء من جمال اللفظ، وبهرجة تخلبك وتستهويك، وفيها معانٍ قيمة لا تخلو من نفع. ولكن المشقة كل المشقة فى أن تصل هذه الجمل بعضها إلى بعض. ونستخرج منها شيئاً قيماً لن تظفر من هذا بشيء. وأكبر ظنى أن الأستاذ الرافعى نفسه لا يحاول أن يقول شيئاً حين يكتب هذه الرسائل. وإنما هو يذهب فى النثر مذهباً غريباً فيتكلف العناء والمشقة فى الغوص على المعانى الغريبة. ثم يتكلف العناء والمشقة فى أن يسبغ على هذه المعانى ألفاظاً عربية» وكان هذا التشبيه الهجومى ردا على تشبيه الرافعى لطه حسين بأنه يتكلم وكأنه يمضغ الكلام مضغا!
وبالطبع كان الرافعى يقف على شاطئ نهر الانتقام ينتظر ويستعد للسباحة فيه دون توقف فهو رجل يهوى الاشتباك مع كل مخالفيه أو منتقديه ولا يتذكر إلا أمرين «قضية اللغة العربية والهوية الشرقية، فكتب سلسلة مقالات فى مجلة السياسة يهاجم طه حسين وراهنه على الملأ ان استطاع ان يكتب مثل تلك الرسائل التى كتبها هو فى أقل من شهر أن يكتبها طه حسين فى سنتين ! وأضاف الرافعى موجها حديثه لطه حسين «لقد نبغت فى الخيال بعد أن قرأت كتابى «رسائل الأحزان» وستنبغ أكثر بالتأكيد بعد أن تقرأ كتابي»السحاب الأحمر» أفأنت تقوم لى فى باب الاستعارة والمجاز والتشبيه!؟» وجاءت الفرصة الذهبية للرافعى بعد صدور كتاب الشعر الجاهلى لطه حسين وهذه قصة أخري.