لا توجد دولة فى العالم أحق من مصر بتاريخها وحضارتها وثقافتها وتراثها الانسانى بتولى مسئولية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو».. ومع ذلك لم يتمكن ثلاثة من المصريين خاضوا تجربة الترشيح لإدارة المنظمة من الفوز بالمنصب.. من هنا تأتى أهمية تكثيف الجهود وراء الدكتور خالد العنانى وزير السياحة والآثار السابق الذى أصبح مرشح مصر والعرب وأفريقيا «الرسمى والوحيد حتى الآن» لإدارة اليونسكو فى الفترة من 2025 حتى 2029.
فى ابريل 2023 أعلن د.مصطفى مدبولى رئيس الوزراء عن ترشيح مصر للدكتور العنانى لمنصب مدير عام اليونسكو لإنجازاته الأكاديمية والتنفيذية ومؤهلاته وإسهاماته داخلياً ودولياً وخبرته طوال 30 عاماً فى التدريس الجامعى والبحث العلمى وعلوم المصريات والآثار والتراث والمتاحف والسياحة، وأن الترشيح يعكس خصوصية العلاقة التى تجمع مصر واليونسكو.. 78 عاماً جمعت بين المنظمة ومصر، التى كانت ضمن أول 20 دولة صادقت على تشكيلها وجعلتها تدخل حيز التنفيذ عام 1946، وشاركت فى مختلف أنشطتها وإعداد الاتفاقيات الدولية الخاصة بها، وأهمها حماية التراث غير المادى وظلت منذ إنشائها عام 1945 حتى الآن عضواً بمكتبها التنفيذى ورأسته عدة مرات ولم تخرج منه سوى سنوات قليلة، واحتضنت القاهرة أحد أهم مكاتبها الإقليمية وكان يخدم حتى نهاية الستينيات دولاً كبرى مثل الصين وتركيا وأفغانستان وقبرص قبل أن يتحول إلى مكتب للدول العربية وأنشأ الملك فاروق لجنة وطنية عام 1949 لتكون همزة الوصل مع اليونسكو ثم صدر قرار جمهورى عام 1962 من الرئيس جمال عبدالناصر بإعادة تشكيلها.
توثقت علاقات مصر باليونسكو وأصبحت حديث العالم من خلال الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة، التى بدأت عام 1959 التى جاءت بفكرة من النحات المصرى الفنان أحمد عثمان مؤسس وأول عميد لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، ومن تبنى إنقاذ معابد أبوسمبل وفيلة وواضع مشروع نقلها خوفاً من غمر مياه النيل لهما بعد بناء السد العالي، ومازالت اليونسكو تحتفل كل عام بذكراه كأحد حراس التراث الانساني، حيث تحل ذكرى وفاته فى 13 نوفمبر، أى بعد أسبوعين.. وعملية إنقاذ المعابد استمرت 20 عاماً من 1960 حتى 1980، توالت خلالها وبعدها مساهمات اليونسكو فى إنشاء مركز تنمية الكتاب وإنشاء متحف النوبة ومشروع التراث الثقافى اللامادى بمحافظة دمياط كجزء من تراث النيل وتم خلاله العمل على صيانة وحفظ التراث الحضارى وصناعة الخزف والأرابيسك والأثاث والنقش على الخشب الذى تتميز به هذه المحافظة.. ولدمياط أيضا مع اليونسكو حكايات، حيث فازت فى عام 2021 بجائزة اليونسكو كواحدة من أفضل مدن التعلم فى العالم وهى الجائزة التى فازت بها من قبل مدينتا الجيزة وأسوان.
كما ساهمت مصر عام 1972 فى صياغة اتفاقية اليونسكو الخاصة بحماية التراث الطبيعى والثقافي، منذ كان للمنظة دورها الكبير فى إعادة إحياء مكتبة الاسكندرية، حيث قام د.مصطفى العبادى عالم المكتبات الدولى بإقناع الحكومة المصرية واليونسكو بمشروع الاحياء بعد قرون من حرقها، وتم بالفعل افتتاح المكتبة عام 2002 وحصل بفضل ذلك د.العبادى على جائزة النيل عام 2013.. على مدى التاريخ كان لليونسكو مواقفها المؤيدة لحقوق الدول النامية ولحقوق الشعب الفلسطيني، وأدرجت القدس والمسجد الأقصى ومدينة الخليل والحرم الإبراهيمى على لائحة التراث العالمى المهدد بالخطر، وقامت بقبول فلسطين كعضو بالمنظمة، مما أدى لانسحاب أمريكا واسرائيل عام 1984 فى زمن الرئيس ريجان، ثم عادت أمريكا ولم تعد اسرائيل إلى الآن.. ولكن أمريكا اتهمت المنظمة فى عهد الرئيس ترامب بتحيزها ضد اسرائيل وانسحبت مرة أخرى عام 2017، حتى عادت فى صيف 2023 على يد الرئيس بايدن، الذى يقوم بسداد ديون أمريكا للمنظمة التى تصل لنصف مليار دولار على أقساط.
كانت القمة العربية التى عقدت بالمنامة عاصمة البحرين فى شهر مايو الماضي، قد أكدت اتفاق القادة على تأييد مرشح مصر د.خالد العنانى لمنصب مدير عام اليونسكو، ومن قبل ذلك أيدت المجموعة الافريقية من خلال اجتماعات المجلس التنفيذى للاتحاد الافريقى فى فبراير الماضى ترشيح العنانى ليكون فى حال فوزه بالمنصب ثانى مدير عام لليونسكو من القارة السمراء بعد السنغالى أحمد مختار امبو، الذى استمر مديراً 13 عاماً من 1974 وحتى 1987، والذى توفى الشهر الماضى عن عمر «103 أعوام»، بعد حياة حافلة بالإنجازات لبلده وقارته والمجتمع الدولي، فقد كان من علامات المنظمة الدولية، ومن صناع السلام ودعاة المساواة بين الشعوب.. بالتأكيد التأييد العربى والافريقى يعطى قوة لمرشح مصر هذه المرة، خاصة أن أهم أسباب عدم توفيق أى مرشح مصرى سابق فى الفوز بالمنصب كان وجود أكثر من منافس عربى وافريقى له، مما شتت الأصوات لدرجة انه فى انتخابات عام 2017 كان ينافس السفيرة مشيرة خطاب 3 مرشحين من الدول العربية، فكان من الطبيعى ألا ينجح أحد منهم لاختلاف العرب وتفتت الأصوات.
بالتعاون مع الدكتور بدر عبدالعاطى وزير الخارجية، بدأ الدكتور خالد العنانى الذى لم يتضح بعد من سينافسه رسمياً جولاته بالتوجه إلى عدة دول افريقية منها أنجولا والكونغو برازفيل، ثم زار الأرجنتين والتقى ممثلى دول أمريكا اللاتينية الشهر الماضي، وفى بداية أكتوبر الجارى توجه إلى باريس مقر المنظمة وشارك فى أعمال قمة الفرانكفونية واستقبله الرئيس الفرنسى ماكرون ورحب بترشيحه على أساس خبراته ومؤهلاته فى مجالات الآثار والسياحة والثقافة، خاصة أنه حاصل على الدكتوراه من فرنسا، كما قام علاء يوسف سفير مصر فى باريس ومندوبنا الدائم لدى اليونسكو بتنظيم عدة لقاءات للعنانى مع سفراء الدول لعرض برنامجه لتطوير عمل المنظمة.
بالتأكيد، الأمر ليس سهلاً ويحتاج إلى بذل المزيد من الجهد، فهناك عقبات ستواجه المرشح المصري، خاصة فى ظل الأجواء الحالية من وجود حكومة عنصرية يمينية متطرفة فى اسرائيل، إلى جانب من سيكون الفائز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث انه فى كل مرة سابقة كانت أمريكا تأخذ صف اسرائيل التى لا تريد مصرياً على رأس اليونسكو، وترى أنه يكفى أن مصر ترأست المكتب التنفيذى عدة مرات آخرها عام 2013، حينما تولى رئاسته د.محمد سامح عمرو لمدة عامين، حيث كان قبلها سفير مصر وممثلها الدائم لدى المنظمة، الذى أصبح فيما بعد عميداً لكلية حقوق القاهرة، لذلك مطلوب تكثيف الجهود لدعم ترشيح «العناني» وعمل كل الجهات سواء الحكومية أو الأهلية كفريق واحد، واستمرار استطلاع الخارجية لمواقف الدول الممثلة فى المجلس التنفيذى لليونسكو «58 دولة» التى ستقوم بانتخاب مدير اليونسكو، وذلك تحسباً لأى مفاجآت عند التصويت، ورصد ما يجرى من تربيطات وتحالفات، خاصة أن النظام الانتخابى معقد، وإجراءاته طويلة وجولاته متعددة واحتمال دخول منافسين أقوياء وارد، وقد نجد مرشحين قد يخرجون على الإجماع العربى والافريقى ويخوضون السباق كما حدث مع المرشحين المصريين الثلاثة خلال الربع قرن الأخير، وهم د.إسماعيل سراج الدين، والفنان فاروق حسني، والسفيرة مشيرة خطاب، وهذا ما نتناوله فى المقال القادم بإذن الله إذا كان فى العمر بقية.