عندما يأتى ذكر تصنيف مصر وفق مقياس أو معيار «القوة» المعمول به فى معاهد الأبحاث والأكاديميات المهتمة بالعلوم والدراسات الحربية والعسكرية .. أجدنى دائما أنظر متأملا متدبرا «منبهرا» إلى مجموعة من «الصور».. بعض هذه الصور ينتمى إلى وقائع وأحداث التاريخ الكبري.. والبعض الآخر هى صور كنت «شاهدا» على بعض تفاصيلها.. من «صور التاريخ» التى أعنيها هنا.. تلك «القوة الخفية» التى جعلت مصر توقف زحف «القوة العظمى الأولي» فى العالم قبل سبعمائة عام وهى «التتار» بعدما اجتاحت جيوشهم العديد من الدول وكادت تصل إلى قلب أوروبا.. هزمتهم مصر فى «عين جالوت» رغم أنها لم تكن خلال تلك الفترة فى أفضل أحوالها «المرئية المادية».. هذه «القوة الخفية» كانت حاضرة بقوة خلال التصدى للعدوان الثلاثى «1956» وكانت سببا فى أن تكتب «المقاومة الشعبية» بداية نهاية إمبراطورية بريطانيا الاستعمارية.. من هذه الصور أيضا جنازة الشهيد عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق.. كان المشهد مهيبا لدرجة أن جمال عبدالناصر أوشك على الذوبان بين حشود الجماهير وصيحاتها والتى هزت «قلب القاهرة» تطالب بالثأر من إسرائيل بسبب اغتيالها للفريق أول رياض وكذلك بسبب ما فعلته فى عام «1967».. وقد كانت هذه الصورة من أقوى «الإشارات المبكرة» التى تؤكد أن هذه الأرض وهذا الشعب لن يقبلا الهزيمة أبدا.. وإننى أراها إحدى صور الطريق إلى «حطام» خط بارليف فى «ملحمة العبور».. ومن صور التاريخ كذلك تلك الصورة التى تحدت فيها مصر كافة الصعاب قبل خمسين عاماً فى حرب العاشر من رمضان «السادس من أكتوبر» وفاجأت الجميع بالمعركة والنصر.. رغم الفارق المادى من التكنولوجيا والمعدات العسكرية.. أما فيما يتعلق بالصور التى كنت «شاهدا» على بعض تفاصيلها فإننى لا أنسى تلك النظرة المفعمة بالثقة والكبرياء التى كان ينظر بها أهالى تلك «القرية المصرية» إلى هؤلاء الأجانب الذين كانت تقلهم العائمات النيلية لمشاهدة معالم وآثار «الصعيد».. النظرة القروية التلقائية الفطرية هذه عبرت بشكل لايوصف عن تلك الحضارة الممتدة عبر آلاف الســنين.. لا أنسى أيضا «إجابة» أحد المصريين الذين عاشوا فى بريطانيا سنوات طوال عن سؤال سأله إياه أحد أصدقائه هناك.. «لماذا لم تتقدم طوال هذه السنوات بطلب للحصول على الجنسية البريطانية وتصبح مواطن دولة عظمي؟!».. وكانت الإجابة «لأننى بالفعل مواطن من دولة عظمى هى مصر».. فى كتابه الأشهر «فجر الضمير».. يقول عالم الآثار والمؤرخ الأمريكى البارز جيمس هنرى بريستيد إن هذه الأرض.. أرض مصر.. مثلما كانت مهدا لظهور أولى لبنات الحضارة البشرية بمفهومها التقليدي.. فهى كانت أيضا مركزا لانطلاق الأحرف الأولى لمعاني الأخلاق والقيم.. حدث ذلك منذ آلاف السنين.. فى حقب زمنية كانت فيها أوروبا»رمز الحضارة الغربية الحديثة» مازالت تسكن عصرها «الحجرى المتوحش».. إننى مازلت أؤمن أن «السر»فى الأرض.. أرض مصر.. مصر الكنانة.. كنانة الله.. سر أودعه الخالق عز وجل فى هذه الأرض منذ بدء الخليقة.. هذا «السر» هو الذى يمكن عن طريقه «فك شفرات» المحطات الفاصلة والمعارك الكبرى التى مرت بها وخاضتها مصر وكذلك حالة الانبهارالتى مازالت «تتملك «العالم عندما ينظر إليها ويتجول على ضفتى نيلها.. إنها مصر التى تحدث عنها رب العزة سبحانه وتعالى فى قرآنه المجيد وتحدث عنها حبيبنا وسيدنا محمد رسول الله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.. السر هنا.. وهنا مكمن الأسرار.. وكل ما قام به وقدمه الأثريون والجغرافيون من اكتشافات ودراسات وأبحاث عن مصر ماهو إلا محاولات وإجتهادات «كبيرة وعظيمة» للوصول إلى «حقيقة» مصر.. لكنهم جميعا لم يصلوا أو لم يستطيعوا الوصول إلى «السر الرباني»فى هذه الأرض.
السر هنا.. وهنا مكمن الأسرار
كنانة الله.. «القوة الخفية» فى اللحظة الفارقة
أطماع الإمبراطوريات.. تتحطم فوق أعتاب المحروسة
من عين جالوت إلى بورسعيد .. الملاحم تفاجىء الأعداء وتبهر العالم
جمال حمدان: مصر.. ملخص التاريخ ومختصر الجغرافيا ورمز الاعتدال
عند «اللحظات الفارقة».. تتبدد كلمة «مستحيل» من كافة مفردات ومرادفات قاموس العزيمة والاصرار المصري.. ولعل هذا يفسر هذه الثقة التى تم بها التمهيد لحرب العاشر من رمضان 1393«السادس من أكتوبر 1973» رغم علم الجميع أن إسرائيل هى أمريكا وأمريكا هى إسرائيل.. لكن هذا لم يعطل أو يوهن من عزيمة النصر.. وقد كان بفضل الله وحمده.. حدث هذا أيضا خلال «العدوان الثلاثي».. إسرائيل ومعها دولتان عظميان هما بريطانيا وفرنسا تشن هجوما غادرا على مصر بأقوى الأسلحة وأحدثها.. لكن أيضا لم يمنع هذا مصر من تسطير «الملحمة» ولم يكن النصر بعيدا عن أعينها.. وقد كان بفضل الله وحمده.. نعم إن المقياس التقليدى للقوة لن يكون دقيقا أو كافيا لتقييم أو تحديد حجم قوة مصر الحقيقية.
لأسباب عدة.. رحت استدعى بعض ما سجله «أسطورة الجغرافيا» الدكتور جمال حمدان
عن مصر فى رائعته «شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان».. رحت استدعى وأمام عينى وفى قلب تفكيرى أن كل ما ذكره جمال حمدان يشير بشكل أو آخر إلى «القوة الخفية» أو «السر القديم» المودع داخل هذه الأرض منذ خلقها.. اخترت ما كتبه جمال حمدان عن واحد من أبرز خصائص مصر ومميزاتها «المكانية».. ذلك الذى يتعلق بعلاقتها بأبعادها «الأربعة».. الآسيوية.. الافريقية.. النيلية.. والمتوسطية.. يقول جمال حمدان عن سمة «الاعتدال» فى مصر: إنه ليس من قبيل التطرف أو التبسيط ولا هو بالتأكيد من باب الوهم أو التسطيح أن نعد التوسط والاعتدال من أبرز السمات العامة الأساسية فى شخصية مصر والشخصية المصرية.. فالوسطية والتوازن سمات رئيسية عريضة لكل جوانب الوجود المصرى تقريبا.. الأرض والناس.. الحضارة والقوة.. الأخذ والعطاء.. وهكذا.. وسواء من حيث الموضع أو الموقع فإن مصر تحتل مكانا وسطا.. وسطا بين خطوط الطول والعرض.. وبين المناطق الطبيعية وأقاليم الإنتاج.. بين القارات والمحيطات.حتى بين الأجناس والسلالات والحضارات والثقافات.. وبغير فكرة التوسط المحورية هذه لن نفهم روح مصر وشخصيتها.. مصر متعددة الجوانب والأبعاد والآفاق مما يثرى الشخصية الإقليمية والتاريخية ويبرز عبقرية المكان فيها.. ويستطرد جمال حمدان: إنه فى معادلة مركزة من السهل أن نعتبر مصر خلاصة تاريخ العالم إلى حد بعيد.. كما أنه ليس من الصعب جدا أن نعد مصر وإن بدرجة أقل مختصرا لجغرافيا العالم «العالم القديم على الأقل».. هى خلاصة تاريخ العالم لأنها إن لم تكن شهدت مولد أو طفولة البشرية فإنها يقينا شهدت أو أشهرت مولد ونشأة أخطر التحولات الإنسانية والحضارية فى التاريخ العالمى ابتداء من الثورة الزراعية والاستئناس والاستقرار إلى ثورة التمدن والنقل ومن تحول طرق التجارة مع الكشوف الجغرافية حتى الثورة الصناعية الحديثة.. ومن «الرسالات التوحيدية» وبناء الإمبراطورية وصراع الامبراطوريات فى الشرق والغرب خاصة الشرق القديم إلى الغارات الآسيوية والحروب الصليبية إلى الإستعمار الحديث والإمبريالية والحربين العالميتين.. .ويضيف جمال حمدان: أما فيما بتعلق باعتبار مصر مختصر الجغرافيا فذلك لأنها بموقعها الذى يجمع بين مثلث قارات العالم القديم والبحرين المتوسط والأحمر وبين الشرق والغرب والشمال والجنوب.. وهى بأرضها التى تجمع بين الدرع والأخدود الأفريقيين وبين نهر النيل والصحراء الكبرى وبين السهل والجبل.. تلخص أبرز العناصر الكبرى وأشكال الأرض الأساسية فى مورفولوجية قطاع شايع من نصف الكرة الشرقى ثم إن بمناخها ونباتها وزراعتها التى تطوى أنواعا متباعدة ومتعددة تختزل كثيرا من المعالم الطبيعية الأساسية فى رقعة
مماثلة.. وفى النتيجة تبدو وكأنها تنتمى إلى أكثر من مكان إن لم نقل إلى كل مكان دون أن تكون هناك تماما!!
ويقول جمال حمدان فى «إشارة» أخري: إن من الحقائق اللافتة للنظر أن مصر مذكورة فى الكتب السماوية الثلاثة ذكرا متواترا إلى أقصى حد بحيث تكون جزءا أساسيا من «جغرافية الديانات الثلاث» ومفتاحا جوهريا لتاريخها.. بل إن مصر ونيلها وفرعونها ومدائنها وخزائنها هى البلد الوحيد المذكور بالاسم والتضمين مرارا فى القرآن الكريم.. ويقول جمال حمدان أيضا: إن مواطن الديانات التوحيدية فى سيناء وفلسطين والحجاز ترسم مثلثا أو سهما رأسه يشكل مماسا لمصر فى سيناء.. فمصر أحد رءوس أو أضلاع «مثلث الديانات».. كذلك فقد انصبت هذه الرسالات جميعا فى مصر على التوالي.. ولقد لعبت مصر فى مراحل الدعوة إلى الديانات الثلاث دورا أو آخر.. فكانت لموسى قاعدة ومنطلقا.. ولعيسى ملجأ وملاذا.. بينما كانت مع النبى محمد صلى الله عليه وسلم هدية ونسبا.
ويستكمل جمال حمدان قائلا: إنه وبطبيعة الحال تبقى مصر ميدانا أساسيا لكل الديانات والرسالات ومعظم الأنبياء والمرسلين.. إن لم تجر معظم أحداث بعضها على أرضها فإن آثارها تحتفظ ببصمات أصابع البعض الآخر.. سيناء تلخص «اليهودية» ابتداء من عيون موسى وحمام موسى وحمام فرعون إلى جبل التيه وجبل موسى وجبل المناجاة إلى الوادى المقدس طوي.. وهناك سلسلة متصلة متعاقبة من المواقع الدينية الدالة والهامة الأخري.. فمن قرية غيتة وتل يهوذا قرب بلبيس بالشرقية أو قرية شلشلمون قرب منيا القمح غير بعيد أيضا حيث عاش يوسف وإخوته «خزائن الأرض» بأرض جاشان «وادى الطميلاث»إلى أون ومنف.. إلى شجرة المطرية.. ثم قرية البهنسا فى صعيد مصر حيث أوى ابن مريم وأمه «ربوة ذات قرار ومعين».. إلى قرية الشيخ عبادة فى المنيا من حيث جاءت السيدة ماريا القبطية زوج النبى محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأم إبنه إبراهيم.. نعم إن هناك قوة أخرى «كامنة» فى هذه الأرض .. قوة لا تستطيع رصدها المقاييس التقليدية للقوة .. السر هنا .. وهنا مكمن الأسرار .. ذكرها القوى العزيز فى قرآنه العظيم وتحدث عنها رسوله الكريم فى أحاديثه الشريفة .. صلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من خرج فى طلب العلم كان فى سبيل الله حتى يرجع.. صدق حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد..اللهم بارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد.. وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فلسطين.. أرض الأقصى.. أرض المحشر.. أرض المسرى.. مسرى حبيبنا وسيدنا محمد رسول الرحمة والإنسانية.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.