مصر دولة ليست عادية فهى دولة كبيرة تاريخاً وموقعاً وتأثيراً ودوراً ولديها أوراق كثيرة تضعها دائماً فى الصدارة ومن هنا فإننا يجب أن ندرك أن قرارنا فى أيدينا ويجب أن يعرف كل من يتجاوز معنا إننا نستطيع حماية أمننا القومى من أى مخاطر خارجية قد تتعرض لها ونرفض أى محاولة لتهديد أمنها.
وقد أفرز هذا الواقع تحديات كبيرة تتعرض لها بلادنا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.. وهى فى جميع هذه الاتجاهات تتحرك بما يحقق أمنها القومى كما ذكرنا.. ولعل من أبرز تلك التحديات فى الوقت الحالى بعد الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضى والشعب الفلسطينى الأعزل الذى يتكبد كل يوم عشرات من الضحايا الأبرياء ــ تلك الاستفزازات والتجاوزات التى تفتعلها أثيوبيا لجعل قضية سد النهضة حقيقة واقعة غير قابلة للحوار أو المفاوضات للحفاظ على الحق التاريخى لمصر فى مياه النيل منذ آلاف السنين وكذلك منذ إبرام اتفاقية عنتيبى عام 1959 التى حددت حصة كلاً من مصر والسودان فى مياه نهر النيل إلى أن استغل النظام الأثيوبى فوضى يناير 2011 وتم البدء فى بناء السد الأثيوبى دون موافقة مصر إلا أن الدولة المصرية أعلنت بعد استقرار الأوضاع بها أنها لا تعارض حق أثيوبيا فى التنمية ولكن دون الإضرار بمصالح مصر والسودان ومع ذلك لم تهتم الحكومة الأثيوبية بإبرام أى اتفاقيات أو الوصول إلى إتفاق قانونى يحمى مصالح دولتى المصب.. واستمرت عملية بناء السد بوتيرة متسارعة حتى كان التوقيع على إعلان المبادئ الذى عقد فى الخرطوم فى مارس 2015 والذى اعتبرناه بداية لحل الخلافات والتنسيق بين الدول الثلاث وجرت اللقاءات والمفاوضات بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا دون الوصول لأى حلول.
تدخل الاتحاد الأفريقى وفشل فى اقناع أثيوبيا التى استمرت فى مواقفها غير المسئولة وظلت تراوغ وتماطل وتطيل أمد المفاوضات بهدف فرض الأمر الواقع بل ولم تضع فى حسبانها المخاطر التى يمكن أن تحدث فى مصر والسودان والتهديد الوجودى للحياة فيهما خاصة ان مصر تعتمد على 97٪ من حياتها على مياه نهر النيل.. ثم عقدت اجتماعات أخرى فى واشنطن وكان الاتفاق قريب حيث وقعته مصر بالأحرف الأولى لتأكيد جديتها ومصداقيتها فى التعامل بشفافية فهى تريد التنمية للجميع ولا تقف عائقاً فى وجه أى مشروع مادام لا يهدد مصير وحياة شعبها ولكن المفاوض الأثيوبى تهرب من التوقيع فى الموعد المحدد وتحملت مصر هذا الموقف بمنتهى الصبر والحكمة ولجأت إلى مجلس الأمن الدولى فى سبتمبر 2021 لوضع هذا الملف أمام المجتمع الدولى بكامله وأعيد الأمر الى الاتحاد الأفريقى الذى فشل للمرة الثانية.. ثم عادت المفاوضات من جديد فى أعقاب زيارة قام بها رئيس الوزراء الأثيوبى إلى مصر والاتفاق على الانتهاء منها خلال أربعة أشهر وكانت آخر جولة مفاوضات فى أديس أبابا فى شهر ديسمبر 2023 ولم يحدث بها أى تقدم وثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أثيوبيا ماضية فى استكمال بناء السد وحجز كميات المياه خلفه بطريقة تخالف القانون الدولى المنظم للأنهار عابرة الحدود الدولية إلى جانب الخرق الصريح لاتفاق إعلان المبادئ وتوقفت المفاوضات وخرج رئيس الوزراء الأثيوبى ليعلن عن إتخاذ إجراءات أحادية رفضتها مصر بالكامل ووجهت رسالة إلى مجلس الأمن أعلنت فيها من جانبها انتهاء مسارات التفاوض مع أثيوبيا وهذا يعنى أن مصر تخطر المجتمع الدولى بأنها سوف تتخذ كافة التدابير والخطوات المكفولة بموجب ميثاق الأمم المتحدة للدفاع عن مقدرات شعبها ومصالحه.
لقد صبرت مصر كثيراً على الاستفزازات الأثيوبية وظن النظام هناك أن القيادة المصرية منشغلة بقضايا أهم على حدودها الشرقية أو الغربية ولكنه تجاهل أن أزمتنا هى أزمة وجود وحياة وبقاء وإننا لا يمكن أن نرضى بسياسة الأمر الواقع وأن من يحاول أن يعبث فى حصتنا فى مياه النيل فعليه أن يتحمل تبعات أفعاله.. وبالفعل بدأت مصر فى اتخاذ إجراءات ملموسة على أرض الواقع اهتز لها الكيان الأثيوبى وذلك عندما تم الإعلان عن بروتوكول تعاون عسكرى بين مصر والصومال وبموجبه تشارك مصر بقوات حفظ السلام فى الصومال ورفضها ذلك الاتفاق الذى تم بين أثيوبيا ونظام ما يسمى بأرض الصومال لاستخدام منفذ بحرى من الأراضى التى يسيطر عليها هذا النظام المنشق غير المعترف به دولياً وتدعو لدعم سيادة الصومال على أرضه وتسانده فى بسط نفوذه على سواحله بشكل تام.. وسريعاً ما دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ.
ومنذ قيام مصر بهذا التحرك لم تهدأ الحكومة الأثيوبية فى إطلاق تصريحاتها هنا وهناك على الرغم أن مصر لم تعلن أو حتى تشير إلى أن هذا التواجد أو المساندة لها علاقة بمشكلة سد النهضة بل هو واجب تفرضه العلاقات المتميزة التى تربط مصر والصومال.
إن مصر لم تكن أبداً دولة عداون على مدار تاريخها الحديث ولكنها فى ذات الوقت لن تسمح أبداً بالعدوان على حصتها ومقدراتها من المياه تحت أى ظرف فهذه الحقوق التاريخية غير قابلة للمساس بها من جانب النظام الأثيوبى وعلى الرغم من ذلك فقد التزمت مصر باتخاذ أقصى درجات ضبط النفس والحكمة والصبر والحرص الدائم على الوصول الى إتفاق قانونى فى الوقت الذى كان النظام الأثيوبى يخادع ويراوغ ويتعامل بعدم مسئولية وغابت عنه الإرادة السياسية لايجاد اتفاق يحقق مصالح الأطراف الثلاثة.
وعوداً لما بدأت به أقول إن مصر قادرة على أن تحمى مصالحها وتؤمن حياة شعبها وترفض أى محاولة لتهديد أمنها وإنها ليست بحاجة أن يمتحن أحد مصادر قوتها وإنها ترفض دائماً سياسة فرض الأمر الواقع.