كنت أجلس على مقهى تاريخى يطل على الميدان الأحمر قبالة مبنى الكرملين أحتسى فنجاناً من القهوة وأنظر على مدد الشوف لأرى تفاصيل الهيبة المرسومة على وجوه الناس، كانت المناسبة احتفالات روسيا بالعيد الثمانين لانتصاراتها فى الحرب الوطنية العظمي، الشوارع تزينت كما العروس ليلة زفافها وكل ما يتحرك أمام عينك من سيارات ودراجات وكافة وسائل النقل والانتقال يحمل صورة لشهيد ضحى من أجل روسيا، وضعت يدى على سر الدولة الروسية الحقيقى ألا وهو «صلابة الشعور الوطنى بشكل تلقائي».
>>>>
الناس أمامى تتحرك فى جماعات يحملون الأعلام ويزينون صدورهم بوردات وعلامات واعلام النصر، لا تحركهم إلا مشاعرهم الصادقة، انتماء صلب صلابة الصخور وشعور جارف بالعزة والفخر، والاستعداد الحقيقى لتقديم أغلى التضحيات من أجل اسم وصورة وطن مرسوم فى قلوب جميع أبنائه، وكما هى العادة كان عقلى يدور حول قلبى المعلق بمصر دائما وأبدا، تساءلت بينى وبين نفسى كيف يفعل الروس هذا الذى ابهرنى بهذه البساطة؟ ولماذا لا نفعل الشيء نفسه؟ وكيف لنا ان نستدعى من تاريخنا العظيم ما يرمم وعى هذا الجيل الذى تتقاذفه أمواج التحديات والأزمات؟
>>>>
لا أريد ان أتحدث فى الهواء الطلق دون ان استند إلى فكرة ما، هذه الفكرة تكمن فى البحث عن آلية استدعاء الشعور الوطنى الجمعى ليكون مستداما وليس مرتبطا بفاعلية معينة، أبحث هنا عن شعور وطنى جمعى حقيقى مستدام، لا ابحث عن حفل يقام هنا أو هناك مدعوما من الدولة الرسمية، ابحث عن تدفق طبيعى وتلقائى دون تدخل ودون مزايدات ودون خجل ودون تمثيل، فمصر بتاريخها الطويل وانتصاراتها العظيمة تستحق ما هو أفضل، وهنا أتذكر قصيدة جبران خليل جبران الخالدة «البلاد المحجوبة».
>>>>
عندما كانت تراوده الأحلام وفى نفس الوقت تحاصره المنايا والخطوب، لذلك جاءت مفرداته مؤلمة وهو ينتحب قائلا « كيف نرجوك ومن أين السبيل ؟» اشعر الآن بما كان يشعر له جبران وهو يقول:
يا بلادًا حُجبت منذ الأزل كيف نرجوكِ ومن أى سبيل
أى قفرٍ دونَها، أى جَبَل سورُها العالى ومَن مِنَّا الدليل؟
أسراب أنتِ؟ أم أنتِ الأمل فى نفوسٍ تتمنى المستحيل؟
أمنامٌ يتهادى فى القلوب فإذا ما استيقظتْ ولَّى المنام
أم غيوم طُفْنَ فى شمس الغروب قبل أن يغرَقنَ فى بحر الظلام؟
>>>>
يا بلاد الفكر يا مَهد الأُلى عبَدوا الحقَّ وصلُّوا للجمال
ما طلبناك بركبٍ أو على متنِ سُفن أو بخيلٍ ورِحال
لست فى الشرق ولا الغرب ولا فى جنوبِ الأرض أو نحو الشَّمال
لست فى الجو ولا تحت البحار لست فى السهل ولا الوعر الحرِج
أنت فى الأرواح أنوار ونار أنتِ فى صدرى فؤاد يختلج.
انتهت أبيات وكلمات جبران لكن أحلامى لبلادى مازالت متوهجة، فإيمانى الصادق الراسخ اننا قادرون على صناعة التقدم، خاصة فى ظل الظروف المعاكسة التى تمر بالمنطقة وفى وسط تلك التحديات التى أدمت قلوبنا.
>>>>
كلما اشتدّت الأزمة زاد يقينى اننا على الطريق الصحيح تماما، وكلما افتضح امر الخونة والعملاء وكشفت ملامح مؤامرات المتآمرين- كلما حدث ذلك- ازداد إيمانى بهذا الوطن وقدراته وإمكاناته، فقط علينا الانتباه الشديد لكل ما يدور حولنا متسلحين بالصبر والحكمة البالغة فى وقت إعمال العقل فيه شيء من الجنون، بنى وطنى ان مصر التى نستحقها لن تأتينا على طبق من فضة ونحن فى أماكننا منتظرين.