لا أنسى أبداً مدى الانبهار الذى غمرنى عند زيارتى الأولى للمدينة الساحرة جنيف.. وقفت طويلاً على كوبرى مونت بلان الذى يعبر ما بين الضفة الغربية والضفة الشرقية لبحيرة جنيف.. كوبرى قصير ولكنه آية فى الإبداع.. إبداع الخالق.. وإبداع من خلقهم.. كل شبر فيه عبارة عن لوحة جمالية تسر النظر وتبهج النفوس.. الأعلام ترفرف على جانبيه.. والنافورة الشهيرة فى وسط البحيرة تزيد المكان روعة وهى تتدفق الى السماء.. والأضواء من حولها ترقص متباهية بألوانها الجذابة.. وهذا ما جعل كل ما على هذه البقعة من الأرض أعظم سعرا وأقيم مكانة..
راودتنى هذه الذكريات وأنا أصطحب أحد الأصدقاء الأجانب لمشاهدة وسط القاهرة ليلاً.. وما أجملها وما أبدعها.. ووجدتها كما هى دائماً عروساً تتجمل بنيلها وتتعطر بنسمة خريف حانية وتتباهى بأضوائها والمراكب تتهادى بشراعها وصخبها.. ولكن اعتصر الحزن قلبي.. وأنا أرى ما آل اليه كوبرى قصر النيل.. وما أصاب أعمدة إنارته من إهمال.. الفوانيس بدائية وزجاجها مكسور وإضاءتها هزيلة إن كانت موجودة أساسا.. وحاملات الأعلام اعوجت أو اختفت.. وتطلعت بحسرة إلى نافورة النيل.. ورغم تواضعها.. فهى لا تعمل مرة أخري.. تعددت المحاولات لإصلاحها ولكن لم تنفع.. وكأنها ماتت..
هذه المرة الثالثة التى أكتب فيها عن كوبرى قصر النيل.. فهو من أهم معالم القاهرة.. والكثير من السائحين يحرصون على رؤيته والسير عليه والتمتع بمشاهدة سحر نيل القاهرة وأضوائه من فوقه.. وهو أول كوبرى أنشأ فى مصر للعبور بين ضفتى النيل فى وسط القاهرة.. النسخة الأولى من الكوبرى أنشأت فى عهد الخديو إسماعيل عام 1871 بينما النسخة الثانية والمطورة من الكوبرى أفتتحها الملك فؤاد الأول عام 1933 وأسماه باسم جده الخديو إسماعيل وتكلف 308 آلاف جنيه.. وهو نفس الكوبرى الموجود حاليا.. ويحكى أنه كان فى غاية الروعة والإبداع الجمالى وكان من أحد أشهر الجسور فى العالم بتصميمه المتميز وأسوده الأربعة على مداخله أبدعها مثال فرنسى يدعى هنرى جيكمار.. ويقال إنها صنعت من أجل وضعها على مدخل حديقة الحيوان بالجيزة.. ويحكى أيضاً أن مراسم الاحتفال بافتتاح الكوبرى كانت من أروع وأبهج الحفلات فى مصر..
كوبرى قصر النيل شهد حادثة اغتيال أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى عام 1946 كما شهد الانتفاضة الشعبية فى يناير 2011 وما تبعها من أحداث.. وتلك الاحداث تسببت فى حدوث الكثير من التلفيات فى جسم الكوبري.. وبح صوتنا من أجل ترميمه وإعادته الى ما كان عليه من رونق ومكانة نفتخر بها.. وقام أحد البنوك القومية بترميمه عام 2016 وصرف الكثير ولكن للأسف لم نشاهد أى إبداع حضارى نتيجة ذلك.. ربما الأرصفة قد تحسنت.. ولكن لاشيء غير ذلك.. وتدريجياً عاد الأمر إلى ما كان عليه من سوء.. وهذا ما يجعلنا فى حيرة من أمرنا.. لدينا جهاز طويل وعريض يسمى جهاز نظافة وتجميل القاهرة.. ولدينا الجهاز القومى للتنسيق الحضاري.. والعديد من كليات الفنون والفنون التطبيقية.. والمئات من الفنانين الذى ساهموا فى إثراء النسق الحضارى فى دول كثيرة.. ولدينا تاريخ من الإبداع الفنى لا يضاهي.. لماذا إذن؟ لماذا لا نرى الإبداع الفنى والجمال والبهجة فى كل شبر على أرضنا؟ معادلة غريبة وغير مفهومة وغير منطقية؟
لابد أن نستثمر رصيدنا الفنى والحضارى من أجل أن يعم الجمال والبهجة والإبداع والاتقان فى كل شبر من وعلى أرضنا.. وفى كل عمل نقوم به.. ولنبدأ بطلبة السنوات النهائية لكليات الفنون الجميلة والتطبيقية.. وأن نجعل مشروع التخرج الذى يقومون به فى نهاية دراستهم من أجل أن نعيد الرونق الفنى والجمالى المبهج الى كل شبر فى مصر.. شوارعها وميادينها ومزاراتها ومبانيها.. مشروعات التخرج كلها نكون تحت عنوان «مصر أجمل» والله سترون العجب.. وربما يعود كوبرى قصر النيل الى سابق حلاوته.