عرف عن الفيلسوف اليونانى القديم «ديوجين» أنه كان يسير فى شوارع أثينا نهارًا حاملاً مصباحًا مضيئًا رغم أنه كفيف البصر.. كان يرد على تساؤلات المارة قائلاً: ابحث بمصباحى عن الحقيقة حتى لا اثقل بالمهمة على الشمس.. يكفيها نشر الضوء والدفء بين الناس.. ومع مرور العقود والقرون مازالت رسالة الفيلسوف اليونانى صالحة للتسويق.. يستفيد منها الإنسان المتشوق للارتواء من نهر المعرفة محركًا لديناميكية التعلم والتطور والتقدم العناصر الاساسية لمهمة الاعمار المكلف بها من الله سبحانه وتعالي.
ذلك أن الله عندما ميز الإنسان بالعقل.. منحة كبرى وعظيمة تحرك دائمًا التفكير نحو الغد.. يترجمها السعى نحو الأمل والحلم.. ناهيك عن البقاء آمنًا وسط آخرين والجميع داخل غاية متشابكة مكدسة بالبنين والبنات.. الأطفال والكبار.. البسطاء والخبثاء.. الطيبون والشريرون.. أصحاب النزعات الاجتماعية والأسرية.. والذين يفضلون العزلة والانطواء فى جزر منعزلة بكامل الإرادة والاختيار.
لكن لأن الاعمار مهمة مستمرة تتلاقى فيها الاقدار والارزاق.. فقد وفرت السماء لبنى آدم السبل للتقدم وسط سياج الأمان والاستقرار لتشغيل الأرض بالتنافس بين القبائل والشعوب والدول والامبراطوريات.. تنطلق من أرضها وداخل حدودها وتسعى للنظر وتبادل الخبرات والانجازات مع الجيران.. القريبين والبعيدين.. دائما أرض الله واسعة لمن يريد استثمار قدرات الحاضر والبحث عن مستقبل أفضل.. له وللأبناء والاحفاد فهكذا تتواصل الاجيال.
وكما نعلم يولد المرء رضيعًا باكيًا.. محاطًا برعاية الأمهات والآباء يبدأ مسيرة الاقدار باكتشاف أسلحة المواجهة.. تتقدمها الغرائز والحواس ومع قابليته للتعلم والتدريب.. يبدأ فى النمو والسير على قدمين.. ثم يذهب إلى المدرسة للتعلم المجتمعى المنظم.. ودراسة مناهج اتفق المجتمع على صلاحيتها وجدواها فى التأهيل ناهيك عن خبرات شخصية تتكاثر بالتجربة المباشرة «مثل التعامل مع النار» ويرث نصيبًا من خبرات وعادات وتقاليد.. يلمحها بالعين والقلب والحواس والعقل داخل الأسرة والشارع والحى والقرية والوطن تساعده على ظهور ملامح موهبته وقدراته.. وبالتالى على التأهيل المنتظر للشخصية للمستقبل ومشوار الحصاد.
تلك الثقافة المجتمعية تتراكم كتبًا وتراثًا وتقاليد وسلوكًا وانجازات وتظل قابلة للزيادة فى أكاديمية الحياة.. ويدعمها الكثيرون بتعلم لغات الآخرين كى يأمن شرهم ويقتنص احسن ما لديهم.. وهى الوسيلة السر فى حصول العالم الآن إلى رحلة القرية الكونية والثورة غير المسبوقة لوسائل الاتصال.
كل ذلك يحتاج إلى جانب مهم.. نراه متواريًا هذه الأيام ونعنى به التبادل المعرفى والثقافى بين زملاء المكان الواحد.. ونعنى به حوار العمل والعائلة والمنتديات يتبادلون ما اكتسبوه من معارف بالقراءة والمشاهدة والوسائل المساعدة الأخرى التى توفرت عبر العصور.. وهى بالطبع معلومات مفيدة ونافعة تقرب الافكار وتدعم التفاهم المأمول كما تحسن بيئة العمل والأداء.. فهل نستطيع رغم المشاغل وصعوبات الحياة المتزايدة وأن نعود لها ليرتاح ديوجين ومصباحه مطمئنًا على جريان نهر المعرفة والابداع.