يقول الكاتب الأمريكى تونى شوارتز أستاذ الاتصال السياسى بجامعة نيويورك إن وسائل الإعلام قد أثّرت على حياتنا وشكلت معتقداتنا بصورة عميقة تقارب ما فعلته الأديان! وهذه المقولة على ما تحمله من مبالغة لكنها تعبر بدقة عما يعيشه عالمنا من مرحلة ما يعرف بـ «النيو ميديا» وهى منابر عبر الفضائيات وشبكات التواصل تقدم بشكل عاجل ما يحتاجه المواطنون من حقائق على الأرض بالصوت والصورة، بل وتمنح المواطنين جميعا حق تبادل المعلومات عبر الشاشات الزرقاء والسماوات المفتوحة، ويمكن استغلال تلك الظاهرة لمواجهة تيارات الفكر المتطرف خاصة وأنها تحتشد بترسانة قوية إعلامية تبث من خلالها سمومها لتجنيد المزيد من الشباب حول العالم.
مؤخرا، أعلن الكاتب الصحفى ضياء رشوان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات عن برنامج «مراجعات» بهدف الوقوف على حالة التطرف الراهنة، وما يمتلكه رشوان من خبرة عميقة اكتسبها من رئاسة تقرير الحالة الدينية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إضافة لبرنامجه الماضى «منابر وسيوف» والمشروعات الوثائقية التى قدمها.
لا خلاف على أن ضياء رشوان خاض تجربة رئاسة الحوار الوطنى ولديه ما يقوله كمتخصص وشاهد على تجربة الحوار الأخيرة، ويقينا لديه ما يستحق ان يقدمه وخاصة مع عوالم الأفكار وتطوراتها وتحولاتها وأظن برنامج «مراجعات» سيكون برنامجا مؤثرا فى مجال الفكر والثقافة عموما والإسلام السياسى بشكل خاص، وما تحمله خزانته من سجل وافر للمراجعات والسير الذاتية والاعترافات والتجارب التى تفيد القاصى والداني.
فى موسوعة «قصة الحضارة» لويل ديورانت هناك حكاية عن امرأة كانت تدعى «نينون دلانكلو» عاشت فى عصر لويس الرابع عشر (1643 – 1715) وكانت حياتها صعبة ومليئة بالجرائم والرذائل.. إلا أن تلك الحياة لم تمنعها من أن تلتقط قدرا كبيرا من المعارف والتجارب الإنسانية حاولت أن تنقلها للآخرين فيما بعد عبر صالون أدبى نقلته إلى ارباب الادب والمعرفة والثقافة والسياسة فى محيطها، حتى اذهلت صالوناتها الأدبية باريس بأكملها بما أبدت من ذكاء ومعرفة، بل وأثارت فضول الملك لويس الرابع نفسه فذهب متخفيا واستمع إليها.
عمرت نينون بعد أصدقائها كلهم تقريبًا، ونقلت للجميع تجارب الآخرين ومراجعاتهم، فلما دنت منيتها تنافس الرهبان اليسوعيون على الاستفادة منها واستتابتها، فاستسلمت لهم فى لطف وماتت فى أحضان الكنيسة.
الغريب فى قصة نينون رغم ما بلغت من ثراء بسبب الصالون الثقافى وتدوين السير والمراجعات انها تركت فى وصيتها انها ترغب فى أن تكون جنازتها ابسط جنازة فى باريس، وكتبت تقول فى الوصية «أطلب فى تواضع إلى المسيو لارويه – وكان وكيل أعمالها – أن يسمح لى بان اترك لابنه الذى يتلقى العلم والمعرفة ألف فرنك ليشترى بها كتبًا»، وهنا يقول صاحب قصة الحضارة «ديورانت» واشترى الأب لارويه لابنه الكتب، وقرأها واصبح هو الفيلسوف الفرنسى الشهير فيما بعد «فولتير».
إن تجربة مراجعات الحياة تحدٍ حضارى كبير وحافز انسانى مثير للمعرفة، وهى ليست مثلًا أعلى فقط للقدوة دفعتها صيرورة التاريخ الإنسانى للتعلم بمزيد من التجارب، بل هى معرفة إنسانية فى حد ذاتها بخبرة ومعاناة كبيرة، وغنى عن البيان أن المعلم يتقاضى غالبا ثمن دروسه، لكن من ينقل التجارب ومراجعتها ربما لا يبتغى الأجر القريب ولكنه يزرع لحصاد غد من أجيال لاحقة.
قابلت أحد الشباب الذين انضموا إلى جماعات التطرف يومًا.. وقال لي: قرأت كتابا لأحد منظّرى الجهاد الكبار وانبهرت به وتخيلته هو القائد والحارس ومفجر الثورة، وذهبت أراود المكتبات الكبرى لكى اقف على ما يقول، ويومها كنت لا اعرف أكثر الذى على الرفوف، وكنت أتألم لألم الجهل الذى يسرى فى اضلعي، مازلت أذكر حينها أنى وجدت امامى عنوانًا غريبًا على الرف « التفكر فريضة إسلامية» لعباس محمود العقاد، ما هذا؟ وما معناه؟، وبكيت يومها لم يكن ثمة أحد يعلمنى ويرشدنى سوى هادى الضلال وهاتف الخلافة داخلي، فقد كان العقاد بالنسبة لى كاتب العلمانية الأوحد.
لكنى مدين لتلك الأيام بأشياء أربعة منها ثلاث ربما لم تتحقق لكثيرين غيري.
أولها: أنى كنت أحس بطعم المعرفة وان لى قضية اريد أن استمر واعيش من أجلها.
ثانيها: أنه ليس لأحد سلطان على عقلى كائنا من كان، وهو ما جعلنى اراجع كل مسيرتى وتجاربى فى الحياة عند أول منزلق.
ثالثا: لأنى لم أسلك الوعى الفكرى والثقافى المفروض والمطلوب لأنى لا أكاد اعرف الطريق أصلا ولم اجد من يرشدني، لكننى نجحت فى العبور من النفق المظلم المتهافت طريق الأيديولوجيا الفاتنة.
رابعًا: أنا الآن اعكف على نقل تجربتى وخياراتى الخاطئة السابقة للجميع لأننى أرى انه ليس لإنسان من عبادة سوى الرجوع عن الخطأ وهنا أتذكر قول الإمام الشافعى « إنى لأتدين بالرجوع عما كنت أرى إلى ما رأيته الحق».
فالإنسان السوى علاقته بأفكاره هى الحوار الدائم والنقد والتطوير وليس الجمود والثبات، وهى وسيلة تنقذ بها الآخرين من حبائل الشيطان التى أغرت البعض، لأخذ العبرة!
ونحن بصدد الحديث عن تجارب الجماعات الإرهابية، يجب توضيح أنه رغم نجاح التجربة على المستوى الفردى مثل تجربة المحامى «مختار نوح» والذى قدم «موسوعة العنف فى خمسين عاما» عبر خمسة أجزاء متتالية، ثم تجربة الدكتور «ناجح إبراهيم» والتى عشق فيها الثقافة والحياة وقدمها فى كتابات عميقة، وتجربة الدكتور «كمال حبيب» وإنتاجه الفكرى والذى كان أحدث ثمراته «الأيديولوجيا الفاتنة.. سير كتابات المتشددين المحدثين»، إلا أن تجربة المراجعات الجماعية باءت جميعها بالفشل؛ فسرعان ما عادت الجماعة الإسلامية بمراجعات التسعينيات وارتمت فى أحضان جماعة الإخوان الإرهابية مما أفقدها كثيرا من مكتسباتها المجتمعية فضلا عن حل الحزب والجماعة من الناحية القانونية.
فتجربة الجماعة الإسلامية فى المراجعات منقوصة ففى اول اختبار لها بعد 25 يناير 2011م لم تلتزم بقواعد ما فرضته على نفسها فى مبادرة وقف العنف التى انطلقت عام 1997م ولم تمارس نقدًا فكريًا لتجربة حركة العنف وبقيت حبيسة نفس تصورات جماعة الإخوان الإرهابية ودفعت ثمن جريانها فى نفس المكان مما خلق مساحات رمادية فى توجهات هذه الحركة وريبة فى التعامل معها.
لقد انقسمت الجماعة الإسلامية لمجموعات تقبلت فكرة المراجعات قلبا وقالبا ومجموعة ظلت حبيسة الأفكار القديمة، بل وانخرط بعضهم فى تيارات العنف ورشحوا الهارب طارق الزمر على رأس حزب «البناء والتنمية» المنحل الذراع السياسية للجماعة الإسلامية، وكذلك موقف الجماعة من أبو العلا عبد ربه وتأييد هروبه إلى سوريا والتحاقه بمجموعات العنف ومقتله ودفاع الجماعة وقيادات الحزب المنحل عن مواقفه.
«ليسوا سواء» هذا هو المبدأ الذى نتعلمه من القرآن، وهنا ندافع عن مبدأ مراجعة النفس وليس مراجعات ظنية الدلالة ظنية الثبوت، ودائما سيكون هناك من يؤيد السلام والاستقرار المجتمعى القائم على مبادئ ديننا الحنيف ومن يذهب للعنف والمواجهة الفارغة من المضمون الحقيقى للدليل الشرعى مختارا سوف يحاسب ويدفع الثمن، ويجب أن تتوازى عملية نقد الأفكار الهدامة مع تقديم بدائل وسطية ومعتدلة تسهم فى النهوض، وكشف اللثام عن مدى اهتراء ثوب الجماعات المتطرفة وأدبياتها وتناقض حججها، بدلا من الاكتفاء بقطف وردة من كل بستان بدون إتاحة الفرصة للرأى العام لتكوين موقف متماسك من تلك الجماعات.
كما علينا أن نقدم حركات التجديد والاعتدال ذات الطابع الإصلاحى باعتبارها المرجع والمآل والمآب الذى نستطيع ان نقارن به حركات التشدد الآخر، فأفكار الاعتدال فى الأمة وهو الأصل الذى يعبر عن الفهم الصحيح للدين ويضبط فهمها لأجيال لاحقة.
تعد ظاهرة الغلو والتشدد من الظواهر المقلقة والاستثنائية وليست الأصيلة فى تاريخ اجتماع الأفكار فى الفكر الدينى الإسلامى عبر التاريخ وهناك الآلاف ممن عادوا بعدما تبين لهم خطورة تأويلاتهم الفاسدة، وتعد اعترافات أصحاب الضمائر الحية وبناء خطاب فكرى لمواجهة التشدد مع عرض اجتهادات المعتدلين من أولى الألباب هو سبيل بناء وطننا العزيز وصناعة ثقافة مصرية من اجل حمايتنا والجيل القادم من التيارات الوافدة والمتطرفة.