طوال حياته المهنية التى استمرت 40 عامًا حتى الآن، أنجز د.زين عبدالهادي، أستاذ علم المعلومات وتاريخ المعرفة المتفرغ بكلية الآداب– جامعة حلوان، مدير مكتبة العاصمة الإدارية الجديدة، العديد من الدراسات والأبحاث التى انصب اهتمامه فيها على دراسة علوم المعلومات والنشر الإلكترونى والأرشيف بكافة فروعه: الصحفى والتاريخى والتراثي، والعلاقة بين الثقافة والتكنولوجيا، واقتصاديات الثقافة، حيث كان من أوائل الذين قدموا إسهامات جديدة فى تطبيقات التكنولوجيا فى مجال المكتبات والمعلومات، وبلغ عدد الأوراق العلمية والمقالات المنشورة له فى الدوريات ودور النشر المصرية والعربية والأجنبية ما بين 400 و420 دراسة وكتاباً ومقالاً، لعل أبرزها كتب: «الإنترنت من عصر البراءة إلى عصر الانحطاط»، الذى يتناول فيه موضوع الاستعمار الرقمى بعد الإنترنت ودور شركات السوشيال ميديا العملاقة فى ذلك، و«الذكاء الاصطناعى والنظم الخبيرة فى المكتبات»، و«نقد العقل المصرى المعاصر»، وتقلد العديد من المواقع الأخرى منها: مدير دار الكتب المصرية، ورئيس الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، وغيرها، وإلى جانب ذلك كان له نصيب وافر من الكتابة الإبداعية شعرا ورواية وقصة قصيرة، منها روايتا «أسد قصر النيل»، و«الحرب فى الشرق»، و«دماء أبوللو»، و«مرح الفئران»، وغيرها.
«الجمهورية» التقت د.زين لمعرفة دور التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى وأثرهما على الثقافة والعمل الأرشيفى العربي، وخاصة الأرشيف الصحفي، واثرهما أيضًا على الإبداع، التحديات التى تواجهنا فى ظل معطيات الثورة التكنولوجية الهائلة.
> من واقع اهتمامكم بعلم الأرشفة، وأثره الكبير فى دفع حركة الفكر والنهضة الثقافية للدول، كيف ترى واقع الأرشيف، وخاصة الأرشيف الصحفى لدينا؟
>> الأرشيف علم له جذور طويلة فى التاريخ الإنساني، الطبيعة نفسها تركت أرشيفها فى الطبقات الجيولوجية والدوائر والحلقات التى نجدها فى سيقان الأشجار والحفريات الإنسانية والحيوانية وكل الكائنات الحية، ، يمكن القول إن العالم العربى لم يعرف الأرشيف بشكله الحديث، إلا بعد دخول الطباعة العالم العربى فى لبنان أولًا ثم تلتها مصر، فى الحملة الفرنسية ظهرت دوريتان منهما الدورية الأشهر «البريد المصري» والتى كانت تتناول أخبار الحملة الفرنسية، ثم أصدر محمد على الوقائع المصرية والتى سميت فيما بعد بـ «الجريدة الرسمية» التى تحوى فرمانات وأوقاف محمد على والتعيينات الإدارية وغير ذلك، من هذه اللحظة بدأ يتكون الأرشيف الصحفى للمجلات والصحف فى مصر، واستمرت المجلات والصحف فى الصدور وتم إعداد فهارس وكشافات لها، وكذلك تم الاحتفاظ بأعداد كثيرة منها، ثم بدأ علم الأرشيف فى الكشف عن ذاته، فأضيفت قصاصات الصحف والمعلومات عن الأعلام، كالأشخاص والكيانات والدول والأماكن والأحداث التاريخية، وفى نهاية القرن التاسع عشر ظهرت المصغرات الفيلمية كالميكروفيلم، واستخدم الحمام الزاجل فى نقل الرسائل المكتوبة عليه فى العمليات العسكرية، واستخدم تجارياً بعد ذلك فى الثلاثينيات فى القرن الماضي، يمكن القول فى النهاية بأن واحدة من أهم سمات الدولة المصرية أن لها أرشيفاً تاريخياً عريقاً، سواء فى دار المحفوظات أو دار الوثائق، أو العديد من المؤسسات المصرية والإعلامية منها، مما ساعد فى نهضة سريعة للدولة المصرية فى كافة المجالات فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر والقرن العشرين .
> يرى البعض أن التكنولوجيا الحديثة مثلما أسهمت فى تطوير العمل الأرشيفي، فإن لها مساوئ انعكست على الأرشيف عامة، والعربى بخاصة، فما رأيكم؟
>> التطور السريع للتكنولوجيا جعلنا نستعين كمصريين بتكنولوجيا الميكروفيلم والميكروفيش فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وقيل عن الميكروفيلم بأنه المعيار الذهبى للحفاظ على السجلات، حيث له قدرة حفظ تصل لـ 500 عام، أى نصف ألفية تقريبًا، لكن ظهور الإنترنت والحاسب الشخصى جعل التحول للأرشيف الرقمى سهلاً وبكميات كبيرة من السجلات، مع سهولة استرجاع البيانات منها بشكل كبير، ورغم كل محاولات تأمين الأرشيف من التغيير والتزوير، إلا أن ذلك حدث فى وقائع عديدة أغلبها كان فى دول المستعمرات القديمة، فالعهد الاستعمارى حتى الستينيات من القرن الماضى كان عهدًا متعلقًا بتزوير منتجات الشعوب الأصلية وتحويلها إلى منتج استعمارى عليه اسم المستعمر، هذا التشويه للتاريخ وللملكية الفكرية التى لم يحترموها فى الأساس جعلهم ينسبون تواريخ وقصصًا وحكايات وسجلات لأنفسهم، حدث ذلك مع إنجلترا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة وهولندا ونيوزيلندا وكندا والدانمرك وبلجيكا والبرتغال وإسبانيا وإسرائيل، وكذلك للدول المستعمرة فى القرون الوسطى، يمكنك تصفح أرشيفاتهم بسهولة لتجد مقدار ما نقلوه من الشعوب الأصلية التى استعمروها ونقلوا عنها ونسبوا ما نقلوه لأنفسهم.
> هناك بعض الوقائع المتعلقة بسرقة الأرشيفات الوطنية للدول، وخاصة من جانب القوى المسيطرة، أو دولة احتلال كإسرائيل، فهل لنا أن نعرف بعضًا منها؟
>> يمكن القول بأن سرقة التاريخ هى أسوأ أنواع السرقات فى التاريخ الإنسانى الحديث، فمازالت هذه الدول ذات النزعة الاستعمارية ترتكب ذلك وبصفاقة منقطعة النظير، ربما عليك أن تقرأ أعمال كل من ميرون بنى فنسى فى كتابه (المشهد المقدس)، وغشيش عميت فى كتابه (بطاقة ملكية) (وهو مترجم للعربية بالمناسبة ومتاح على الانترنت)، ورونه سيلع فى كتابها (لمعاينة الجمهور)، وأورى أفنيرى فى كتابه (الوجه الآخر من العملة)، وبنى برونر فى فيلمه الوثائقى (السرقة الكبري)، وتوم سغيف، وبنى مورس وغيرهم لتعرف وتتأكد كيف أن إسرائيل سرقت التاريخ الفلسطينى وزورته ونسبته لأنفسها حتى تاريخ شجيرات الزيتون لم يسلم منها، وفى الأرشيف الفلسطينى والمكتبة الوطنية الفلسطينية، ان ما نود الإشارة اليه هنا، على وجه الخصوص حجم الجريمة التى ارتكبت وطرق اخفائها بحق الأرشيفات والوثائق التاريخية والمخطوطات والإنتاج الفكرى والمعرفى الفلسطينى والذى يقدر بملايين الوثائق وآلاف الكتب التى تعود الى العهد العثمانى وما قبله وتمتد إلى ما قبل 1815 – 1917 وتشمل وثائق الحكومة والمؤسسات العامة، وتمتد أيضًا من أيام الحكم العسكرى للانتداب البريطانى على فلسطين (1917- 1948)، بالإضافة الى أرشيفات المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية والبلديات والأوراق الخاصة لعائلات وقيادات ومثقفين فلسطينيين، ووثائق المجلس الإسلامى الأعلى ووثائق الطابو العثمانى والبريطانى وسجلات السكان وأرشيفات القنصليات الألمانية والنمساوية والبريطانية والقنصليات العربية التى عملت فى القدس، كالقنصلية السعودية والعراقية والمصرية وغيرها وأرشيفات اللجنة العربية العليا وأرشيفات النوادى الغرف التجارية . هذا الموروث بحجمه ومضمونه المهم منه ما حرق وأتلف والكم الأكبر رحل وحفظ فى المكتبة الوطنية الاسرائيلية ومكتبة الجامعة العبرية والأرشيفات العسكرية وغير متاح للجمهور وتحت رقابة مشددة، ويحفظ فى أماكن مغلقة.
> وكيف تنظر إلى الأرشيف العربى فى ظل ثورة الذكاء الاصطناعى وما يترتب عليها من تحولات وأخطار قد تصل إلى حد تزوير وقائع التاريخ والتلاعب بالوثائق؟
>> بالنسبة للأرشيف العربي، هناك بعض الشخصيات العربية من رجال الأعمال والعلماء الذين أخذوا على عاتقهم توفير مواقع للأرشيفات العربية على الانترنت، وكذلك دأب كثير من الشركات العربية على اختبار الذكاء الاصطناعى فى بنية قواعد البيانات العربية ومنها قواعد بيانات خاصة بالأرشيف التى ترتبط بالنصوص والصور واختزانها على الحواسيب ـ وهناك المئات من الأوراق العلمية فى هذا الصدد، وأنا نفسى ومجموعة من طلابى من المصريين والسعوديين فى الدكتوراه فى كلية الآداب بجامعة حلوان بقسم المكتبات والمعلومات، قدمنا ورقة علمية لاختبار الذكاء الاصطناعى على الصحف والمجلات والقواميس العربية وكيفية تخزينها واستراجاعها كنصوص كاملة، مع توفير صورها الأصلية مع توفير أدوات البحث فيها بكل الطرق، وأظن أننا نجحنا إلى حد كبير فى ذلك، ويمكننا التفكير بعد ذلك فى طريقة لتأمينها عبر أساليب التأمين السيبرى Cybersecurity، أعتقد جازما أن الحلول موجودة، لست قلقًا من ذلك.
> ماهو دور الأرشيف، وخاصة الأرشيف الصحفي، فى كتابة العمل الإبداعي، سواء كان رواية أو مسرحية أو شعرا؟
>> لا يمكن لكاتب عربى أن لا يتوقف أمام الأرشيف من أجل بناء عمله، خاصة إذا كان العمل الإبداعى يعتمد خلفية تاريخية قديمة أو حديثة ومعاصرة، فهناك آلاف الوقائع التى يجب عليه قراءتها وتسجيلها، ولا يتوقف الأمر على مطالعة الأرشيف الخارجى فى الصحف ودور الأرشيف، بل ربما – وهذا أراه فى غاية الأهمية – أن يقوم الكاتب خاصة فى مجال الرواية والمسرح بعمل أرشيف للأعلام فى روايته أو مسرحيته، هذا الأرشيف يتناول الشخصيات والأماكن وكل أسماء الأعلام، فكل شخصية تجب كتابتها بملامحها بطريقة ملبسها وحركاتها وعلاماتها المميزة وتاريخها الشخصى وأقرب المقربين لها، هذا أمر يفعله كبار الكتاب وكان نجيب محفوظ يقوم بذلك وبصرامة عالم، هنا يجب أن نتوقف عند أدوات الكاتب، الاستسهال ينتج فنا رديئًا للغاية، لا يمكنه العيش وسط أطنان الروايات والأعمال التى تصدر يوميًا، لقد تحدثت عن الشخصيات أضف إليها الأماكن وملامحها التى تتغير عبر السنوات، إذا دققت فى أعمال محمد خان مثلا السينمائية ستجده قدم سيرة مبهرة للقاهرة عبر ربع قرن تقريبًا فى أعماله، الكاتب عليه أن يعى ذلك جيدًا ويلتزم به، أن يكون له أرشيفه الخاص.
> باعتبارك مبدعًا، قاصًا وروائيًا وشاعرًا، هل استفدت من الأرشيف الصحفى فى كتاباتك الإبداعية؟
>> نعم استفدت منه عدة مرات، حتى فى أعمال قادمة بإذن الله، لم يكن يمكننى كتابة رواية «أسد قصر النيل» التى قدمتها فى 2011 دون هذا الأرشيف، ولم يكن يمكننى تقديم «الحرب فى الشرق» روايتى الأخيرة دون أرشيف، وفى الجزء الثانى منها لدى أرشيف ضخم لعدد كبير من الشخصيات، والأغانى والمطربين والمطربات والأسطوانات والأماكن والأحداث التاريخية وأسماء السفن وبياناتها وأسماء أماكن فى مصر وباريس وبريطانيا وتاريخ كل ذلك، الأحداث التاريخية كانت أصعبها التى لم تتوافر لها مستندات معينة إلا فى مكتبة الكونجرس والمكتبة الوطنية الأسترالية والأرشيف النيوزيلندى والتركى والهندي، لطبيعة الأحداث نفسها فى الحربين العالمية الأولى والثانية.
> وهل كان لتخصصك الأكاديمي، كأستاذ لعلوم المعلومات والمكتبات أثر فى أعمالك الإبداعية والعكس؟
>> كما يقول المثل العامى فى اقتباسين، الأول «طباخ السم بيدوقه»، والثانى «أعط العيش لخبازينه ولو أكلوا نصه»، وبالمناسبة فالحضارة الفرعونية كلها قامت على التخصص الدقيق وهذا ما يذكره تحديدًا هيرودوت فى كتابه التاريخى « تاريخ العالم» والذى كتبه بين 450 و420 ق.م، بالطبع ساعدتنى كثيرًا دراساتى فى علوم المكتبات والمعلومات فى أمرين، أولاً: تنظيم سجل وأرشيف للأحداث والشخصيات بطريقة منظمة واضحة ومن ثم تحويلها بعد ذلك لقاعدة بيانات على الحاسب، لقد توقفت عن الكتابة على ورق منذ مقتبل الثمانينيات، ثانيًا: نحن ندرس علم المكتبات والمعلومات وهى دراسات بينية فى مجموعها، بمعنى أن التخصص الدقيق لعلوم المكتبات والمعلومات هو تخصص مفرق دمه بين تخصصات كثيرة، منها اللغة، التاريخ، الآثار، المخطوطات، تاريخ الكتاب، تاريخ المكتبات، البيولوجيا، التكنولوجيا، الفيزياء، وأولاً وأخيرًا الفلسفة، وإذا تفحصت فى ذلك ستجد أيضًا أنه علم ذو قاعده موسوعية عريضة، يمنحك قدرة هائلة على الالمام بكثير من العلوم، وبالتالى يساعدنى ذلك فى الكتابة بشكل مدهش، خاصة إذا تعلق الأمر برواية معرفية، أو أعمال ذات موضوعات متعددة، ستجد أن خلفياتنا العلمية فى علم المكتبات والمعلومات ساعدتنا كثيرًا، وهو ما انعكس إيجابيًا على كل أعمالي، سواء السردية أو الشعرية.
> حدثنا عن مكتبة العاصمة الإدارية الجديدة وتكوينها الإدارى ؟
وضع حجر الأساس لبناء مدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية مع بداية عام 2018 واستغرق بناؤها 30 شهراً على مساحة 127 فداناً، ويبلغ نصيب المكتبة منها 9 آلاف متر مربع وتتكون من مبنى على شكل حرف u، وينتمى تصميم مبانى المكتبة الى عصر الباروك (عصر النهضة) وهو ينتمى فى الشكل المعمارى لمبانى القاهرة الخديوية ويبدو كتحفة معمارية، كما يتصف بزخارفه الركوكو السلسة ويتوسطها مبنى زجاجى الذى يتصف بمفهوم ما بعد الحداثة، كما يوجد بمبنى المكتبة قاعتين لعرض الكتب الجديدة التى اقتنتها المكتبة بالإضافة الى 8 قاعات رئيسية سميت بأسماء مجموعة من العلماء والمؤرخين والادباء والكتاب المصريين رجالا ونساء والذين اثروا الثقافة المصرية والعالمية بأعمالهم، وملحق بالمكتبة مكتبة الطفل والصالون الثقافى وسينما وثائقية كبيرة وأماكن مخصصة للمعارض الفنية والناشرين، وستكون هناك قاعات مخصصة لعرض كتب بعض الناشرين مثل دار النشر التابعة لمكتبة الإسكندرية وغيرها، والمؤكد أن هذه المكتبة ستكون إضافة كبيرة للثقافة وللباحثين المصريين والعرب أيضاً لأنها تضم أمهات الكتب وتعتمد على كل الوسائل العلمية الحديثة فى الاطلاع.