فى حياتى محطات كثيرة بعضها لا يزال حاضرًا بقوة فى ذاكرتى وبعضها أتذكره كلما جادت الذاكرة بها لكن تظل الطفولة أهم محطة فى حياتى التى أدين بالفضل فيها بعد الله سبحانه وتعالى لأبى وأمى أحب الناس إلى قلبي، فقد تحملا لأجلى الكثير والكثير، وكانا يدخران من قوتهما لتوفير ما أحتاج إليه فى رحلة الحياة والتعليم حتى التحقت بالجامعة، وتحديدًا بكلية إعلام القاهرة التى أحببتها ورغبت فى الدراسة بها واستجاب أبى وأمى ووافقا على رغبتي.. رحمة الله عليهما فقد توفاهما الله قبل أن أوفيهما أبسط حقوقهما التى كنت أخطط لأدائها نحوهما.
وفى طفولتى التحقت بكتَّاب القرية فى بلدتى «بيشة قايد» بمحافظة الشرقية، لأتعلم أول حروف الأبجدية على «لوح» تكتبه أقلام بوص ومدواة حبر تأهلت بفضلهما لحفظ سور وأجزاء عديدة من القرآن الكريم أنارت عقلى وفتحت قلبى لنور العلم.. ومن «الكُتّاب» انتقلت للمدرسة الابتدائية التى تعهدنى فيها معلمٌ فاضلٌ وأبٌ كريمٌ وهو المرحوم الأستاذ محمد عبدالعزيز الشحات وشهرته محمد العدلى الذى كان يدرِّس لنا كل المواد الدراسية وقتها وكان وحده مدرسة كاملة يعادل كل مدرسى المواد هذه الأيام.. علّمنا حب الأم والأب والوطن والدين ومعنى الحياة الحقيقية حتى أنه كان يصطحبنا من قريتنا إلى مركز الزقازيق لأداء امتحان الشهادة الابتدائية.
كان العدلي، بعد أبى وأمي، معلمى وقدوتى الذى عرفت على يديه معنى التربية الحقيقية والقيم الأخلاقية الرفيعة وأبسط مبادئ العلم والمعرفة.
وبعد الإعدادية حصلت على «الثانوية العامة» بمجموع كبير رشحنى لكل كليات القسم الأدبي.. لكننى فضلت دراسة الصحافة والإعلام، وتقدمت لمعهد الإعلام بجامعة القاهرة الذى لم يكن «يكتفى وقتها بالمجموع العالى بل كان يشترط اجتياز اختبارات شفوية وتحريرية يعقدها أساتذة وإعلاميون وصحفيون وشخصيات عامة لها وزنها، وقد اجتزتها كلها بنجاح ليتم قبولى بذلك المعهد الذى سرعان ما تحول إلى كلية للإعلام تتلمذت فيها على أيدى أساتذة كبار، بينهم الكاتب الصحفى الكبير جلال الدين الحمامصى ود.عبد الملك عودة ود.حامد ربيع ود.جمال العطيفى (وزير الإعلام فيما بعد) وغيرهم من القمم والقامات الأكاديمية والمهنية..
لكن يظل أستاذى جلال الدين الحمامصي، رحمه الله، محطة مهمة فى حياتى فقد تعلمت على يديه فنون الصحافة والمهنية وشرف الرسالة والمصداقية، ورغم أنه خريج هندسة القاهرة «قسم عمارة» عام 1939 فإنه كان أستاذًا بحق للصحافة، لقّن أجيالاً وأنا واحد منهم، دروسًا عملية فى شتى فنون الصحافة ، ولم يكن يكتفى بملاحظاته على تعليم تلك الفنون الصحفية بل كان يحرص على غرس قيم واخلاقيات الصحافة فينا، وقد بدأ الأستاذ الحمامصى عمله محررًا صحفيًا فى جريدة كوكب الشرق عن عمر يناهز 15 عامًا وكان فى بداياتها مساعدًا لسكرتير تحرير جريدة المصري، كما عمل مستشارًا صحفيًا لجريدة الأساس فى يونيو 1947 وكان أول من حمل هذا اللقب فى الصحافة المصرية، وهو صاحب العمود المتميز فى «الأخبار» «دخان فى الهواء» الذى امتاز بمعلوماته الغزيرة والرأى والتحقيق، وكان يقود الحملة تلو الأخرى ضد الفساد والإهمال، وكان القارئ ينتظره بشغف.
ومن الحمامصى تعلمنا الالتزام واحترام الآخر والمهنية والحفاظ على «المصدر» فلا نفشى له سرًا، كما تعلمنا على يديه كل أنواع الفن الصحفى من خلال جريدة «صوت الجامعة» التى صدر أول أعدادها فى 18 ديسمبر 1972 وكانت بمثابة «معمل تدريب» لنا نحن طلاب كلية إعلام القاهرة قسم الصحافة حيث كنا نقوم بتحريرها وتوزيعها.
ولا ننسى أن الحمامصى أشرف على إنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط ورأس مجلس إدارتها، وتوفاه الله فى يناير 1988 ولا يمكن لأى شخص تعلم على يديه أن ينساه أبدًا؛ ذلك أنه كان قدوة حقيقية للصحفى المهنى الصادق الذى يبادر بالتصدى لأى فساد أو إهمال.
ومن المحطات المهمة ايضًا فى حياتى بعد تخرجى فى كلية الإعلام عام 1976 وكانت الوحيدة أيامها فى هذا التخصص على مستوى الجمهورية قبل أن يجرى إنشاء أقسام للصحافة بكليات الآداب فى شتى ربوع مصر وهو ما أعتبره عملًا تخريبيًا أضعف المهنة وأضاع فرص العمل لخريجى الإعلام الحقيقيين حتى باتوا يرزحون تحت خط البطالة.
وأذكر أننى فور تخرجى تدربت بجريدة الأخبار ثم انتقلت مع الكاتب الصحفى الكبير الراحل محسن محمد للعمل بجريدة الجمهورية الذى تولى رئاسة تحريرها بقرار من الرئيس السادات الذى اختاره لضرب الشيوعيين فى تلك الجريدة ثم جمع بين منصب رئيس التحرير ورئيس مجلس إدارة دار التحرير (الجمهورية)..وكان رحمه الله يرفض «الواسطة»، وقد تعلمت على يديه فنون الصحافة وأصولها ومبادئها وكيف تكون المهنية وعدم الفبركة..وأشهد أنه أدخل لجريدة الجمهورية مجموعة كبيرة من الشباب استطاع بهم إحداث نقلة نوعية كبيرة ارتفعت بتوزيعها تدريجياً من 70 ألف نسخة إلى 450 ألفاً فى النصف الأول من عام 1984؛ ثم وصلت إلى 850 ألف نسخة على يد الكاتب الصحفى الكبير محفوظ الأنصارى الذى نجح فى استثمار جهود ونجاحات محسن محمد الذى أدرك أن الأخبار والأهرام تهتمان بأخبار السياسة فاتجه لأخبار المجتمع وابتكر أبوابًا جديدة مثل سوق المال و»فى خدمتك» وأفرد مساحات فى الصفحة الأولى للعاملين فى المهن المهمشة مثل عمال النظافة والصرف الصحى وغيرهما ونشر صورهم فى صدر صفحات الجمهورية التى كانت مدرسة للحياة تعلمت فيها الكثير من أساتذة افاضل ولا ننسى أن من بين كتابها توفيق الحكيم وطه حسين ود.محمد مندور ود.لويس عوض وخالد محمد خالد وكامل زهيرى وغيرهم.
وشهادة للتاريخ فقد التحقت أنا وعشرات الشباب خريجو الإعلام بالعمل فى صحيفة الجمهورية دون واسطة فقد كانت الكفاءة معيار اختيارنا للعبور إلى بلاط صاحبة الجلالة.
وفى حياتى المهنية عرفنا تناقل الخبرات بين الأجيال وتعلمنا ممن سبقونا ولم يبخلوا علينا بخبرتهم ونصحهم ولعلى أفخر بأننى ابن من أبناء جريدة الجمهورية التى احتضنتنى ومنحتنى فرصة العمل وتحقيق الذات ولم تبخل على بشيء حيث عينت فيها فور تخرجى وترقيت من مندوب صحفى فى وزارات عديدة إلى رئيس قسم الأخبار فى عهد محفوظ الأنصاري، ثم نائبًا لرئيس التحرير ثم نائباً أول لرئيس التحرير فى عهد الكاتب الصحفى الكبير سمير رجب ثم اختارنى بعد ذلك صفوت الشريف شخصيًا رئيسًا لتحرير كتاب الجمهورية وعضوًا بمجلس الإدارة بالتعيين بعد أن كنت عضوًا منتخبًا لسنوات طويلة ثم اختارنى مجلس الشورى رئيسًا لمجلس إدارة دار التحرير (الجمهورية) فى عام 2009 حتى قامت احداث يناير فتقدمت باستقالتى طواعية فى فبراير 2011.. ولم يوافقنى فى ذلك إلا زميلى الكاتب الكبير عبدالقادر شهيب رئيس مجلس إدارة دار الهلال وقتها وهو ما رفضته بقية القيادات الصحفية وأصرت على البقاء فى مواقعها حتى جرت إقالتهم جميعاً بعدها بشهرين اثنين.. ولو عاد بى الزمن فسوف أتخذ قرار الاستقالة؛ فمصر وقتها كانت فى حالة فوضي.. وكان الجميع يطالب بتنحية القيادات الصحفية والإعلامية التى عملت مع مبارك، و كان لابد من دفع دماء جديدة فى شرايين الصحافة والإعلام بأفكار مختلفة وليس كما فعل بالتلون مع كل الأنظمة.