الفن أحد مقومات القوى الناعمة للدول والشعوب.. فمشهد درامى أو سينمائى واحد يمكن أن يحدث تأثيراً يفوق عشرات الكتب والمقالات على أهمية أى حرف تخطه أقلام المفكرين والكتاب والمثقفين المهمومين بشواغل الوطن وقضاياه الكبري، الفن يمكنه أن يغير كثيرا من الواقع لكن هل الفن الموجود حالياً يمكنه أن يغير شيئا أو يبنى قيمًا أو يكرس وعيًا حقيقيًا وبنَّاءً.. وقد وجهت سؤالاً فى هذا المكان قبل سنوات لصناع الفن والدراما والنقابات الفنية والتمثيلية: هل يرضيكم ما وصل إليه حال الفن.. هل ما تقدمه الدراما والأفلام المصرية اليوم يرقى لمستوى التحديات الراهنة وما أكثرها؟!.. هل يمكن القول إن هناك قامات راسخة فى التأليف والسيناريو يشار إليهم بالبنان كما كان الحال من قبل مع الرائع أسامة أنور عكاشة وغيره من عباقرة الكتابة والتأليف الذين سطروا بأفكارهم وأقلامهم روائع لا تزال تحيا فى الوجدان الشعبى وتخلد فى الذاكرة الشعبية؟!.. فمن يمكنه أن ينسى «ليالى الحلمية» أو أرابيسك أو «زيزينيا»؟!
هل نجحت الدراما فى الصمود فى الميدان فى مواجهة طوفان السوشيال ميديا التى اجتذبت الملايين، وبالأخص الجيل الجديد الذى بات يستهويه ما يسمى «دراما الواقع» أو reels وstory على الفيسبوك أو فيديوهات التيك توك وصور الانستجرام التى يقدمها بشرٌ حقيقيون فى حياتهم اليومية.
ومن الأسف، أن الدراما وصناعها استسلموا لغواية ما يطلبه الجمهور لا ما ينفعه وبينهما فارق شاسع؛ حتى بات الفن عموما وصناعته فى مواجهة تحديات خطيرة، ما يقتضى بأهل الصناعة من نقابات فنية ونجوم وكتاب ومخرجين أن يتنادوا لإنقاذ مهنتهم عبر خطط واضحة تعود بالفن عمومًا، والدراما على وجه الخصوص إلى المنافسة مع الميديا الجديدة التى لن ترحمهم وستتركهم فى مواجهة البطالة والفاقة، وتترك الناس فى متاهة التشويش ومحاولات الاستقطاب والتأثير وتشكيل وعى زائف بالتاريخ والهوية والمستقبل.. فهل تجد هذه الدعوة آذانا صاغية لدى المهتمين بصناعة الدراما والفن قبل فوات الأوان نتمني؟!
إن ما تقدمه المتحدة من أعمال يعطينا نموذجاً مهماً فى الدراما التى تبنى الوعى وتناقش قضايا وطنية جادة وتقدم رموز العطاء والتضحية وتبرز التاريخ كما يستحقه.
وهذا هو الفن الهادف الذى نحتاج إليه بل نحتاج المزيد منه لأن الفن الهادف سيخلق جمهوره المتعطش لروائع الزمن الجميل،الذى يملك قدرة هائلة على التوصيل والتأثير فى كل فئات المجتمع وطبقاته يقول عنه شيخ الأزهر د.أحمد الطيب إنه أحد الأدوات المهمة فى علاج شوائب كثيرة فى ميزان الشرع الحنيف، ذلك أن الأزهر الشريف يدعم ويشجع الفن الهادف الذى يبنى ولا يهدم ويحمل رسالة للارتقاء بالمجتمع وتغيير الواقع السيئ إلى واقع أفضل.
الفن الرفيع سيبقى سلطان القلوب وسيظل أهم أدوات بناء الشخصية وصياغة الوجدان وتشكيل العقل والإدراك بحقائق التاريخ ومجريات الواقع لدى الأجيال الجديدة، لتتساوى أهميته وربما تفوق التعليم تأثيراً، ذلك أنه عابر للحدود يصل للمتعلم والجاهل والكبير والصغير فى وقت واحد.الحروب الحديثة لم تعد مجرد احتلال للأرض، بل احتلال للعقول تبدأ بتشويه التاريخ وهدم الرموز التاريخية والهوية الوطنية والمُثل العليا حتى لا يبقى لشبابنا انتماء لوطنهم واعتزاز بهويتهم عبر محاولات لا تكف عن اختلاق الشائعات تارة وإثارة غرائزهم وتنمية الأنانية والاستهلاك النهم فى نفوسهم تارة أخري.
ولا عجب والحال هكذا، أن تسعى الدول لتحصين وعى شعوبها بتبنى فن هادف فى الدراما والسينما والمسرح والموسيقي، وتبنى تعليم مثمر وإعلام مستنير موضوعى وليس بأعمال هابطة.
الأمر الذى يجعلنا نقول مطمئنين إن الفن والواقع وجهان لعملة واحدة، بل ربما خلق الفن واقعاً مريراً فما يركز عليه يكبر وينمو وما يغفله يذبل ويتلاشي.. الأمر الذى يقتضى المعنيين بصناعة العقل والوجدان أن يبذلوا مزيدًا من الجهود لإفساح المجال أمام تعليم هادف ومثمر وثقافة رفيعة وفنون راقية لتأخذ مكانها اللائق فى حياتنا وأن تعود لكنف الدولة لتخرج من رحمها وتحت رعايتها كوسيلة لإيقاظ الوعى وشحذ الهمم.
القوة الناعمة تبدأ بالتربية والثقافة والفنون والعلوم، فهى أركان الشخصية وأهم أدوات تشكيل العقل.. بها يكتسب المواطن الصغير ذوقه الفنى ويبنى بها مداركه ومعارفه ويصوغ وجدانه وقيمه وطموحاته وعشقه للوطن وولاءه وثقافته وانحيازاته.. وبها تتكشف مواهبه الكامنة وقدراته الدفينة.. حتى تصبح لحياته معنى وهدف وقيمة.. آن الأوان بعد نجاح الدراما الوطنية المقدمة خلال السنوات الماضية أن تستعيد الدولة قواها الناعمة فى مختلف أنواع الدراما وفى شتى المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والإنتاجية.. وتلك فى رأيى أولوية ينبغى أن تتقدم على ما سواها.
يحدونا الأمل بعدما تحقق من دراما وطنية، أن يزداد التركيز على إنتاج أعمال فنية تعكس خطاً تاريخياً هادفاً وبناء معرفياً هادئاً واجتماعياً مستنيراً مثلما كانت أعمال الزمن الجميل التى أبدعتها قرائح مبدعين عظام أمثال أسامة أنور عكاشة الذى تجسد أعماله الروح والشخصية المصرية بكل تفاصيلها ومستوياتها، ذلك أنه ألقى ضوءاً كثيفاً على أحوال مصر المعاصرة، مشتبكاً مع قضاياها وهمومها وطموحاتها، راصداً بعمق تغيراتها الاجتماعية ونضالها التاريخى ضد الاستعمار والاحتلال والعدوان الغاشم فإذا ما شاهدت مثلا ليالى الحلمية عرفت التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى فترات متعاقبة من تاريخنا الحديث، منطلقاً فى رشاقة وعمق وبساطة من الخاص إلى العام، واضعاً نصب عينيه الهم القومى كأحد أهم التزامات المثقف تجاه وطنه.. فلامست أعماله القلوب وخلدت فى الذاكرة الوطنية؛ فلم تجد فيها عنفاً ولا لفظاً خادشاً مبتذلاً رغم أنها لم تخل من انحرافات سلوكية.
ما نرجوه أن تختفى دراما تشويه القيم والوعى والإدراك لتحل محلها دراما تبرز الصورة الإيجابية وأن يتزايد الإنتاج المتميز لشركات وكيانات وطنية تحرص على الحفاظ على نجومنا وتواصل فى الوقت ذاته اكتشاف مبدعين جدد فى كل مجال، لا يكون همهم البحث عن المال خارج الحدود ببرامج مقالب أو حفلات موسمية تسحب البساط من تحت أقدام الوطن.
نريد مزيداً من الأعمال الفنية التى تكرس قيم الولاء والانتماء الوطنى عبر تصدير نماذج إيجابية جادت بأرواحها حتى يحيا وطنها عزيزاً أبياً كريماً.. وهى نماذج نحن فى أشد الحاجة لابتعاثها ومحاكاتها فى مثل ظروفنا الصعبة، أعمالاً فنية تبرز دور التعليم والبحث العلمى فى تطوير المجتمعات ونهضة الأمم وأن القوة الحقيقية تكمن فى العقل. ومنجزاته..دراما لا تعرى مجتمعنا ولا تسفه قيمه وأحلامه حين تصر على إبراز نماذج تتجرأ على الأخلاق وتدوس القيم وتمارس الخيانة وقلة الأدب والتفاهة والبلطجة.
الرئيس السيسى وضع قضية بناء الإنسان فى صدارة أولوياته ويبقى أن تبسط الدولة والمجتمع أيديهما لاستنقاذ الفن والثقافة والتعليم من أنياب المغرضين والباغين ..ولعل أقصر الطرق لذلك هو تقديم دراما جادة تشيع روح الأمل وتقدم حلولا ناجعة لهموم المواطن وتعيد الاحترام لقيم كادت تندثر.. دراما تعيد لنا الريادة والإبداع والالتزام بالأخلاق المصرية الحميدة وحب العمل والتفاؤل والتمسك بالأمل ولفظ الشائعات وتجار الأزمات.. نريد فناً يضاهى الزمن الجميل يبنى الحلم والمستقبل.