ستظل ثورة يوليو 1952 التى عبرت ذكراها الثانية والسبعون منذ ساعات مناسبة وطنية بامتياز، ذلك أنها ورغم ما خالطها من سلبيات فقد أنهت بشجاعة مشهودة عصر الإقطاع والملكية، وفتحت الباب لتحرر وطنى واستقلال لم يتوقف عند مصر وحدها بل امتد ليشمل دولاً كثيرة هنا وهناك!!
ولعل تجدد الذكرى يحمل معه أسئلة عديدة: هل حافظت الثورة عل مكتسباتها وهى عديدة ومثمرة.. وكيف تراجعت تلك المكتسبات ومن المتسبب فى تراجعها؟!
رغم كثرة ما كُتب عن ثورة يوليو 52، سواء بأقلام رجال الثورة، وقد كانوا بارعين فى الكتابة ولهم حولٌ وطولٌ فى الثقافة والأدب، أو بأقلام خصومها أو بأقلام صحفيين أحبوا عبدالناصر وآخرين ناصبوا أفكاره ومشروعاته العداء.. وأياً ما تكن مواقف هؤلاء واتجاهاتهم السياسية فإنه لا خلاف أن ثورة يوليو كانت حدًا فاصلاً بين عهدين، عهد الملكية الإقطاعية وعهد الجمهورية الأولى لمصر.
ولا ينبغى أن يغيب عنا ونحن نطالع ما كتب عن يوليو مدحًا أو قدحًا أن نتذكر أن ثوار يوليو كانوا بشراً لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.. ولعل ما يثار عن تلك الثورة من جدل لم ينقطع منذ رحيل عبدالناصر فى سبتمبر 1970 خير دليل على أن لثورة يوليو تأثيرًا لا يمكن إنكاره فى تاريخ المصريين وأحوالهم على مدى عقود وعقود؟!
لم يكن ناصر شخصاً عادياً بل كان استثنائياً فرض شخصيته على مسارات الأحداث فى عصره بل ربما صنع بنفسه أو شارك فى صنع تلك الأحداث، تاركاً بصمة يستحيل أن تُمحَى بعد أن امتدّت الناصرية لتحدث أثرًا عميقًا ليس فى أفريقيا وحدها بل فى آسيا وأمريكا اللاتينية.
وستبقى ثورة يوليو واحدة من أعظم ثورات العصر، إذا نحن قسناها بحجم التغيرات الجذرية فى المجتمع المصرى وصولاً للمجتمع العربى والإفريقى وانتهاءً بأمريكا اللاتينية والهند وغيرهما من البقاع المتعطشة للتحرر الوطنى والتى استلهمت أفكار ناصر ودعوته للحرية والاستقلال والخلاص من نير الاستعمار الأجنبى الباطش الذى لم يكن وارداً فى مخططاته أن يتخلى عن تلك الأرض لأصحابها لولا قيام ثورة يوليو التى أشعلت النار وزلزلت الأرض تحت أقدام المحتلين.
أمجاد وإنجازات ثورة يوليو يستحيل طمسها أو إخفاء معالمها، وسوف تبقى دواءً لكثير من أمراضنا.. ولها فى المقابل إخفاقات وأخطاء شأنها شأن أى عمل بشرى لا يصح إنكارها.. لكن لا يصح أيضاً أن يتخذها البعض ذريعة للنيل منها وإهالة التراب عليها وتجريدها من كل حسناتها بمناسبة وبغير مناسبة فهذا ظلم فادح لا ينال من ثورة يوليو بقدر ما ينال من مصر ذاتها باعتبارها الأم الحقيقية.
وحتى يكون الحكم على ناصر وثورته عادلاً ومنصفاً فلابد أن ينهض على أسس تقييم موضوعى دقيق وأمين لنحو 18عاماً من عمر مصر وأمتها العربية.. وليس من الحق أن يدعى البعض أن ازدهار الثقافة والفنون فى العهد الناصرى إنما يرجع لرعاية الدولة لها حتى تكون لسان حال المشروع القومى والثوري، فالضباط الأحرار كانت لهم علاقات وثيقة بالثقافة، فمنهم من وقع فى حبها قبل الثورة، ومنهم من امتهن الكتابة والإبداع، فعبدالناصر نفسه كانت له محاولات للكتابة فى المسرح والرواية، وله قصة بعنوان «فى سبيل الحرية» بدأها وهو لا يزال طالباً فى الثانوية، وتناول فيها معركة رشيد، ثم كتب «فلسفة الثورة»، و»يوميات عن حرب فلسطين» ولا ننسى ما قاله ناصر حين سئل بعد قيام الثورة عن المفكرين الذين أسهموا فى تكوين أفكاره فاستشهد برواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم.
من فضائل ثورة يوليو أنها مكنت الشعوب من حق تقرير المصير وأنهت موجات استعمار أذاقت البشر فى مصر والإقليم كله مرارة العبودية وذل الاحتلال.
وبصرف النظر عن صحة ما يردده البعض من أن الثورة أكلت بنيها فإن أبناء الثورة أيضًا اختلفوا معها، لكنها فى كل الأحوال كانت فى بدايتها حركة قام بها بعض الضباط الأحرار وسرعان ما انضم إليهم أبناء الشعب ولا يجادل أحد فيما حققته من تصنيع شق طريقه وسط الصعاب وإصلاح زراعى واجتماعى وفرص عمل ووظائف حكومية تبوأتها طبقات مختلفة وفى القلب منها الفئات الكادحة التى كانت نواة صلبة للطبقة الوسطي.
ورغم كل المزايا فلا يمكن أن ينكر منصف ما وقعت فى ثورة يوليو من أخطاء اعترف بها قادتهم أنفسهم، وهو ما جرها لانتكاسات كبرى لولاها لكانت تلك الثورة من أمجد أيامنا التاريخية.. ويجب ألا ننسى أيضاً أزمة مارس 53 التى أنهت شهر العسل بين رفاق يوليو صناع الثورة ومفجريها الذين استحال وفاقهم خلافاً وصراعاً شرساً انقسموا فى إثره لفريقين لكل منها وجهة نظر تحترم، أما أحدهما فكان صاحب الأغلبية داخل مجلس قيادة الثورة وترأسه جمال عبدالناصر الذى كان من رأيه تمديد الفترة الانتقالية سنوات أخرى حتى تكتمل أهداف الثورة ومبادئها الستة التى قامت لأجلها.. أما الفريق الآخر فقد تزعمه اللواء محمد نجيب أعلاهم رتبة فى ذلك الوقت ومعه خالد محيى الدين ويوسف صديق والذين كانت نهايتهم دراماتيكية حيث أقيل نجيب أول رئيس للجمهورية وتحددت إقامته فى فيلا بالمرج، ولزم صديق بيته معرضاً عن إتمام المشوار مع الثوار، ولم يشفع له أنه أنقذ الثورة والرفاق من حبل المشانق لو فشلت فى لحظاتها الأخيرة التى خاطر فيها بروحه حين اقتحم مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.
ويبقى أننا فى حاجة لتوثيق أمين ومنصف ومحايد لثورة يوليو التى تجهلها الأجيال الجديدة ولا تعرف عنها إلا ما يرد فى كتابات متناثرة بين الحين والآخر.. ويكفيها أنها حققت للشعب ما لم يكن يحلم به ولولاها ما تملك الفلاحون أرضًا وما تعلم أبناؤهم ونحن مثلهم بالمجان فى مدارس وجامعات تخرج فيها نوابغ كثر منهم مشرفة وزويل ويعقوب والباز وغيرهم.. فهل لا تزال مكاسب يوليو قائمة أم تجاوزها الزمن وعفا عليها؟!
وتبقى حقيقة لا يمكن إنكارها.. أن ثورة يوليو أكلت بنيها مثل كثير من الثورات.