أواخر التسعينيات حضرت مزاداً لمتعلقات الأقتصادى المصرى التاريخى طلعت حرب، وهالنى مثل الكثيرين ألا يقام متحف لمقتنيات قيمة فائقة الروعة، قطع اثاث متنوعة من خامات نادرة وتحف للديكور بالغة التميز منها شمعدانات وادوات مائدة خزف ومعادن محفورة عليها أو بارزة بحروف ذهبية باسم صاحبها وكذلك مفروشات وملابس وادوات خاصة جدا منها طرابيش وفرش شعر ونظارات واقلام ومحابر ودفاتر مذكرات وأوسمة ونياشين وألبومات صور ولوحات فنية .
.. كانت مناسبة للتعارف مع فئة متميزة شاركتنى الأسى على تاريخ يباع بالمزاد الا انهم بالطبع تنافسوا على الشراء، منهم سفير سابق لبيت دعوته للزيارة، لأجد منزله متحفا بما تعنيه الكلمة، من شقق زمان ببناية تحدت كل زمان بوسام الاصالة والشموخ بطراز ايطالى اونمساوى تحوى الشقة مابين 6 و8 غرف، ترتفع حوائطها مايقرب من 7 امتار، جمال مكوناتها تعجزعن وصفه أبلغ العبارات، ومن التحف المنتشرة فى كل مكان، احتل سيف قائد عثمانى موقعا مميزاً على حائط البهو الرئيسى بزاوية ميل فى كنانة تزركشت بإبداع يخلب عقل من يتأمله .
.. تذكرت المشهد قبل أيام عندما قادتنى الصدفة لزيارة منزل ريفى فى احدى قرى المنوفية لتقديم واجب عزاء، لم يكن سيفا ذلك الذى توسط المضيفة بل كان متر خشب تزين طرفاه بقطع نحاسية وميضها البراق يدلل على فرط العناية الفائقة، وكانت التحفة محورا للحديث مع اهل الدار وتفرع الحوار الا عن مسار الاعتزاز بالذكرى والعناية بالأثر ومايرتبط به من قيم اصالة شعبنا العظيم الذى تمثل له الذكرى عمقا عاطفيا يعزز استلهام طاقات الامل واشراقات البهجة واحياء للطباع والسلوكيات الموروثة برموز ساكنة ولكنها تنطق بالكثير
.. متر خشب كان للجد الراحل بائع القماش، بدأ حياته بفرش بضاعته على محطة القطار بجوار شقيق له حلاق يستقبل زبائنه جلوسا على ارضية رصيف المحطة .. واجتهد الشقيقان حتى صارا من الاعيان .. القماش يتاجر والحلاق يزين ويعالج حتى امتلكا متجرين متجاورين
.. تحدث مضيفنا حفيد القماش عن جده الذى عاصره فى باكورة صباه، قال كان المتر الخشب لديه متعدد الاستخدام لم يكن أداته فى قياس مايبيعه لزبائنه فحسب ولكن اكثر من ذلك بكثير .. وطالما تحدث عنه بما يمكن وصفه بفلسفة لم استوعب عمقها الا بعد رحيله بسنوات .. كان يلازمه فى فض نزاعات بمجالس عرفية تولاها ويرقص به فخرا ومرحا فى حفلات الزفاف ويردع به الاطفال فى كتاب القرية حيث كان أديبا شاعر محفظاٍ للقرأن، ومن أطرف ماذكره ما كان حديثا للقرية والقرى المجاورة فى أربعينيات القرن الماضي،اجتمع كبار القرية لمناقشة رغبة عريس قزم من قرية مجاورة الزواج من أحدى بنات قريتهم ولما استشعر رفض والد العروس زواج ابنته من قصير القامة هب القماش واقفا قابضا على متره الخشبى وقال هذا كان سبب ثروتى وأمانى وأمارة أمانتى بينكم، اداة لا تكذب ولاتخون وللحقوق تصون، وهذا ماعرفناه عن عريس حافظ للكتاب وإمام فقيه يحتكم لرشده الناس فيما اختلفوا، فان ارتضته العروس وجب إتمام الزفاف، فوقف الحضور داعمين لرأى القماش وتم الزفاف وانجبا من المشاهير مقرئاً ووزير وطبيبة وسفير .
قال الحفيد الذى ناهز الثمانين : ورثت المتر الخشب عن والدى وسوف أحرص عليه لأولادى وأحفادى من بعدي،احتفاظا بقيم نحيا بها وعليها، قيم التزم بها الاجداد فتميزوا واحتلوا بها منزلة رفيعة فى نفوس من عاصروهم وذلك هو الأثر والإرث الحقيقى لاجدال .