لو أعاد أحد قراءة ما كتبته هنا يوم الخميس الماضى تحت عنوان : إيران وإسرائيل، لوجد أننى توقعت «حرفياً» طبيعة ونوع الرد الإيرانى المحتمل، بل الحتمى على الغارة التى دمرت إسرائيل بها مبنى القنصلية الإيرانية فى دمشق وقتلت قيادات عسكرية من الحرس الثورى الإيرانى كانت مجتمعه به.
لقد استبعدت أولاً أن يكون الرد الإيرانى مماثلاً للفعل الإسرائيلي، أى أن تستهدف إيران مبنى سفارة أو قنصلية إسرائيلية فى الخارج، أو أن يتضمن الرد عملية اغتيال لشخصيات إسرائيلية.
وحددت فى آخر عشرة سطور من المقال احتمالين وحيدين للرد الإيرانى هما:
١ــ أن يستهدف الرد منشأة عسكرية داخل إسرائيل أو خارجها، بما استعرضته إيران من نماذج بصواريخها التى يستطيع مداها الوصول للداخل الإسرائيلي.. وقد حدث.
٢ـ أن يستهدف الرد الإيرانى سفنا إسرائيلية فى البحر الأحمر، ولكن «بعملية نوعية».. وقد حدث ذلك ايضا ولكن فى مياه مضيق هرمز الأقرب إلى المياه الاقليمية الإيرانية، حيث استولت وحدة من الحرس الثورى الإيراني، باستخدام طائرة مروحية، على سفينة إسرائيلية واقتادتها إلى المياه الإقليمية.
وقلت فى النهاية إن هذه احتمالات قائمة لكن المؤكد أن إيران لابد أن ترد، لأن عملية دمشق موجعة لها، وعدم الرد يحرجها أمام حلفائها.. وقد حدث.
>>>
عندما جاء الرد أثار العديد من ردود الفعل المتضاربة خاصة فى شقه المباشر وهو الهجوم بالطائرات المسيرة والصواريخ على الداخل الإسرائيلي.
< توقيت بدء انطلاق الهجوم كان معلناً.. غاب عنصر المفاجأة الذى تعتمد عليه أى عملية عسكرية بنسبة اكثر من خمسين بالمائة لضمان نجاحها.
إيران نفسها أعلنت رسمياً أنها ابلغت امريكا بموعد الهجوم.. أمريكا أنكرت ذلك رسمياً أيضا.. لكن الرئيس الأمريكى كان قد أعلن قبل الهجوم أنه يتوقع حدوثه يوم الأحد.. وقد حدث فلم تصل الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية إلى مشارف إسرائيل إلا فى الساعات الأولى من صباح الأحد بالفعل.
فى كل الأحوال لم يكن بوسع إيران إخفاء موعد الهجوم.. فكيف يمكن إخفاء ما يقرب من ثلاثمائه طائرة مسيرة وصاروخ وهى تعبر سماوات أكثر من دولة، قادمة من شرق الخليج العربى متجهة إلى إسرائيل عند البحر المتوسط، فى رحلة يعد طولها بآلاف الأميال.
< أدى ذلك بالطبع إلى أن يفقد الهجوم زخمه والكثير من تأثيره المادى على الأرض.. كان استعراضاً جوياً كبيراً، ونتائج فعليه محدودة، نظراً لأن كل الأطراف كانت قد استعدت للتعامل معه.
تضاربت ردود الفعل حول ما تم من التعامل معه.. وصول تأثيره.
قالت أمريكا إن قواعدها العسكرية فى المنطقة نجحت فى التعامل مع معظم مفردات هذا الهجوم واسقاطها قبل أن تصل إلى الداخل الإسرائيلي.
وكذلك قالت فرنسا وبريطانيا.
ولو صح ذلك، فهذا يعنى أن الدول الثلاث تحملت عن إسرائيل عبء ضد الهجوم الإيرانى وأنقذتها من آثاره المحتملة على الأرض لو وصل إلى الداخل الإسرائيلي، وأن دور إسرائيل فى صد الهجوم كان محدوداً.
فى المقابل، لم تنكر إسرائيل دور حلفائها الثلاثة، لكنها فى نفس الوقت تفاخرت بصلابة قبتها الحديدية وأنظمة دفاعها الجوى التى قالت إنها نجحت فى التعامل مع مفردات الهجوم الإيرانى قبل أن تصل إلى أراضيها واعتبرت ذلك «نصراً عسكرياً تاريخياً» على أول هجوم عسكرى من «دولة» استهدف أراضيها منذ قيامها.
محللون عسكريون وسياسيون إسرائيليون وأجانب، اعتبروا الهجوم الإيرانى سابقة سلبية فى تاريخ إسرائيل، أسقطت نظرية «الردع» التى تعيش عليها وتتعامل بها فى الاقليم منذ قيامها، وأن إسرائيل اصبحت منذ «طوفان الأقصي» مجالاً مستباحاً أرضاً وسماءً للإاتهاك من جانب وكلاء إيران ثم من جانب إيران نفسها.
< إسرائيل، التى لم تنفذ بل ولم تحترم أو تعترف بأى قرار صدر من مجلس الأمن موجهاً إليها، وآخرها القرار الذى يدعوها لوقف إطلاق النار فى غزة.. لجأت إلى مجلس الأمن بشكوى ضد إيران متهمة الهجوم الإيرانى بأنه «انتهاك للقانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة»!! وطالبت المجلس بإدانة إيران وبالطبع، لم يكن منطقياً أن يدين المجلس «رد الفعل» وقد سبق قبل أيام من إدانة الفعل الإسرائيلى بتدمير مبنى القنصلية الإيرانية فى دمشق وقتل من كانوا به من قادة الحرس الثوري.
>>>
< تحليل لافت لما بعد الهجوم الإيراني، جاء على لسان أحد أكبر المخططين والمحللين الاستراتيجيين فى الولايات المتحدة، وهو السفير السابق «ريتشارد هاس» قال فيه إن الهجوم الإيرانى منح اسرائيل «قبلة الحياة» وأعاد إشعال جذوة التعاطف مع الإسرائيليين بعد ما فقدوه بسبب الحرب فى غزة.
وهذا صحيح مائة بالمائة، وأتفق معه تماماً.
فقد رأينا إسرائيل تستعيد وحدتها الداخلية ولو نسبياً وتحاول تعزيزها بالحديث عن رد تستعد له ضد إيران.. أى إبقاء الصراع الإيرانى الاسرائيلى ساخناً.
ورأينا إسرائيل تستعيد بعض ما فقدته من تعاطف دولي، ومن سعى حلفائها للنأى بأنفسهم عن جرائمها التى ترتكبها ضد الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة، بل وينقلب الأمر إلى اجتماع مجموعة الدول الصناعية السبع لدعم إسرائيل مالياً بمليارات الدولارات، وتوقيع عقوبات جديدة ضد إيران.
هذا يثير عندى سؤالا مهما:
هل كان ذلك هدف إسرائيل ورئيس وزرائها نتنياهو من استفزاز إيران بالهجوم المباغت على مقر قتصليتها فى دمشق وقتل بعض قادتها العسكريين، حتى تضطر للرد، ويخرج نتنياهو بالحرب فى غزة من قضية العالم الأولي، ليصبح الصدام الوشيك المحتمل بين اسرائيل وإيران مباشرة هو القضية؟!.
فى رأيي.. هذا وارد جداً.
بالتالي، أمامنا فى العالم العربى وأمام كل من ارتبطوا بالقضية الفلسطينية فى كل انحاء العالم، وتابعوا جرائم الإبادة الجماعية والتجويع والنزوح لقسرى اليومية التى ترتكبها ــ ومازالت ــ ترتكبها ــ اسرائيل.. أقول:»أمامنا جميعاً مهمتان رئيستان»:
١ـ مهمة عاجلة، وهى احباط المخطط الإسرائيلى المحتمل لصرف أنظار واهتمام العالم عما يجرى فى غزة إلى أى قضية اخري، ومنع إسرائيل من الافلات من الحصار السياسى والدبلوماسى الذى نجحنا حتى الآن فى تحقيقه، وهو مواجهتها بالتزاماتها بوقف الحرب فى غزة والضفة، امتثالاً لقرارات الشرعية الدولية، واستمرار قوة الدفع فى مسار تبادل الرهائن لدى حماس والأسرى الفلسطينيين لدى اسرائيل والابقاء على ارتباط العالم بالسعى للاعتراف بالدولة الفلسطينية كقنطرة للعبور إلى حل الدولتين.
٢ـ مهمة طويلة الأجل، لكنها حتمية، وهى أن ينظر العالم العربى فى أوضاعه والمخاطر المتصاعدة التى تحيط به بعد أن اصبح «عالقاً» بين صراعات قوى اقليمية وعالمية لا حصر لها.. دولاً وجماعات بما أعاده اليوم إلى وضع أسوأ مما كان عليه فى عهود الاستعمار الأجنبى التقليدى لدوله وشعوبه قبل منتصف القرن الماضي.
فى عهود الاستعمار الأجنبي، كانت كل قوة استعمارية تحتل عدة دول عربية.
اليوم.. الواقع معكوس.. بعض الدول العربية تعانى من وجود عسكرى لأكثر من جماعة مسلحة.. هذا قائم فى سوريا وفى ليبيا .
كيف يمكن أن يخرج العالم العربى من هذا الوضع الذى لا مثيل له فى عالم اليوم؟! المؤكد أن مصر «قادرة» على عملية الخروج من هذا الوضع، كما قادتها فى مطلع النصف الثانى من القرن الماضي، وساهمت فى تحرير، ليس العالم العربى فقط، بل شعوب العالم الثالث كله.. افريقيا وأسيا ومريكا اللاتينية من الاستعمار القديم؟!.