هناك ما يجرى أمام أعيننا ولا نجيد قراءته وتحليله، فما بالنا بما يجرى خلف الأسوار داخل هذا المرسم المسحور؟ نسمع أصواتا وهمهمات لكننا لا نستطيع تفسير أو فهم مدلولاتها أو سياقاتها، لكن السؤال الذى يشغلنى ويقلقنى هو لماذا أصابتنا لعنة الاسترخاء امام ما يجرى سرا وعلانية؟ لماذا انبطحنا ارضاً أمام تلك العواصف والرياح العابثات؟ الذى يقلقنى حقا هو قلق النخبة الساكنة دون حراك الداكنة دون ألوان.. فعندما تهب الرياح وتتحول إلى عواصف عاتية تقتلع كل ما هو سطحى وخفيف الوزن وبلا جذور فى طريقها.
هذه الرياح العابثات تتحرك إلى حيث المنخفضات الجوية وجودا وعدما، بيد أن حالة العبث الإنسانى الحالية تشبه الرياح الحائرة والدائرة فى فراغ الفوضى تنذر بالخطر الشديد، والمستفيد الأول والأكبر فيما يجرى على الصعيد العالمى هم دعاة الفوضى والاناركية وداعمى الفكر الانشطارى الذى يهدف إلى تفريغ العالم من قيمه الأخلاقية وثوابته الفكرية وقوانينه الإنسانية، التغيير الجارى أمام أعيننا عنيف لكننا وللأسف الشديد لا نقرأه بنفس العمق وبنفس اللغة، فمعظمنا ينظر إلى تلك التغييرات الحادة على أنها سياسية أو اقتصادية فقط.
الحقيقة انها تغيرات ثقافية وعقيدية، ربما يجوز أن أطلق عليها «حرب المرجعيات» فالمرجعيات الليبرالية واليسارية مثلا فى مواجهة صريحة مع المرجعيات اليمينية والشمولية أو ما يطلق عليه الغرب السلطوية، لكن هذه الحقيقة أيضاً باتت فى موضع المراجعة، فالتغيرات أعمق من تلك الصورة التى باتت سطحية، ففكرة صراع الحضارات والأديان ولت وحل محلها تلك الصراعات الفكرية سواء الليبرالية ومشتقاتها من النيو ليبرالية وغيرها وصولاً إلى ما نسميه الآن صوت الجنوب أو الحضارات المشرقية تحت التشكيل.
الآن أرى رياحاً عاتية تنطبق بشكل عشوائى فى كل الاتجاهات ولا يمكن لأحد توقع مسارتها وتحركاتها وما ستفعله وهى تتحرك بعنف، هذه الرياح تزيح ثوابت ومتغيرات وتبدل قيم وثقافات وما نراه من مظاهر لا نضعه فى سياقه الصحيح حتى نستطيع رؤية اللوحة النهائية وهى تُرسم فى المرسم المسحور غير المنظور، لكن بحق السماء من يحرك هذه الرياح بهذه العشوائية العنيفة المدمرة؟ من يستطيع مشاهدة كل المسارات وكل المحطات وكل المتغيرات؟ من يستطيع أن يستشرف المستقبل القريب فما بالنا بالبعيد؟
يبدو أننا نعيش مرحلة لا نستطيع أن نرى أبعد من تحت أقدامنا ومستقبلنا يمر دقيقة بدقيقة، فى هذه الأجواء الغائمة شديدة الضباب ووسط هذه الرياح العاصفة والأمواج المتلاطمة والفيضانات والأعاصير التى اقتلعت كل الثوابت ماذا عسانا أن نفعل وماذا فى مقدورنا أن نفعل؟ فى تقديرى وبمنتهى التجرد أن العالم يمر بمرحلة «تغيير دماء» و»تبديل جينات» وليس فقط ما نراه من «تغيير جلد» فقط.
السؤال الذى أطرحه على النخبة المثقفة وكذلك المفكرون وأصحاب النظريات والأفكار المبتكرة هل نحن منتبهون لعمق وحدة وصرامة وقسوة التغيير الذى يشهده العالم على مستوياته السياسية والاقتصادية والثقافية والقانونية والفكرية؟ هل نحن جاهزون لطرح رؤيتنا وسرديتنا وسط كل هذه المنمنمات العاصفة؟ والسؤال الأخطر والأهم والبسيط فى نفس الوقت هل لدينا سرديتنا الخاصة وطرحنا المتكامل لنقدمه ونلقى به وسط الساحة التى يسيطر عليها «سحرة التكنولوجيا» و»أبناء الذكاء الاصطناعي»؟ هل نحن جاهزون للنزال الفكرى والثقافى الآن؟ العالم غير بات غير منظم بالكلية والمؤسسات الدولية قيد الفك والتركيب وإعادة التشكيل كما قطع الصلصال فى أيدى الأطفال، الدولة الرسمية منغمسة ومنشغلة فى مواجهة التحديات المرتبطة ببقاء الدولة وإعادة بنائها من كل الزوايا، الدولة الرسمية غارقة فى تفاصيل الحفاظ على مقدرات الدولة وتوفير الحياة اليومية لمائة مليون ويزيد، لذلك أوجّه كلماتى للمفكرين والمثقفين وأصحاب النظريات الإصلاحية المبتكرة، لقد جاء وقتكم فى التحرك حتى لا نقف متفرجين على الرياح العاتية ونقول لها أيها الرياح العابثات.. تمتعي.