ذات يوم؛ احتفى أحد أقدم سجناء الجماعات الإسلامية بصورة رسمها بنفسه على جدران زنزانته تعبر عن طريق طويل مليء بالمنحنيات والأشواك وقد اسماه «المعالم»، وفى هذا الطريق توجد مواضع سير بطيئة لإحدى الكتابات المؤسسة للعنف؛ بدايةً برسائل حسن البنا «1928».
وجاءت بعد كتاب البنا كتب من عينة: «المصطلحات الأربعة فى القرآن» للمودودى «1942م»، ثم «معالم فى الطريق» لسيد قطب «1964م»، «رسالة الإيمان» لصالح سرية «1974م»، «ملة إبراهيم» لجهيمان العتيبى «1976م» مروراً بكتاب «الفريضة الغائبة» لعبدالسلام فرج «1979م».
وفى المرحلة الأخيرة تأتى كتب: «الدفاع عن أراضى المسلمين» لعبدالله عزام «1982م» و»العمدة فى اعداد العدة للجهاد فى سبيل الله» لسيد امام «1998م» ثم كتاب «فقه الجهاد» «1994فم» لأبى عبدالله للمهاجر، و«إدارة التوحش» لأبى بكر ناجى «1997م».
حملت اللوحة المرسومة فى الزنزانة كتب الآباء المؤسسين للعنف تحت ستار الدين، وفكرة ثبات المنهج فى الجوهر وتطوره فى الآليات منذ حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان» وواضع البيان التأسيسى لفقه الجماعات السرية تحويل السلوك الإسلامى لعمل مسلح بحجة ضياع الخلافة وانهيار دولة الإسلام.
هذا ما أكده أيمن الظواهرى نائب زعيم القاعدة فى آخر ما كتب «نظم الوريقات» فوصف البنا بالإمام باعث النهضة الإسلامية الذى أخرج الشباب من العبث واللهو إلى ميادين الجهاد وعدد قيادات التنظيمات الجهادية بعد ذلك.
عديد من منظرى الجماعات الإسلامية مثل يوسف القرضاوى وطارق رمضان وفريد عبدالخالق يؤكدون على التمايز بين الرجلين: حسن البنا وسيد قطب، التمايز الذى صكته بعض روافد الجماعة والتنظيم فيما بعد فى تيارين أطلق على أحدهما «البناويين» والثانى «القطبيين»، لكن هل هناك فرق حقيقى بين التيارين أم أن كلا منهما مكمل للآخر؟
لقد أثيرت تلك المسألة فى حلقة مختار نوح المحامى والمفكر الإسلامى عبر برنامج «مراجعات» فأكد بالفعل أن البعض يظن أن تيار البنا كان معتدلا فى مقابل تشدد تيار قطب، وكانت بالفعل هناك صراعات داخل أروقة الجماعة فى مسألة تبنى العنف، وحين طلبت بشكل شخصى توضيحاً من الأستاذ نوح بعد الحلقة، قال: « فكر حسن البنا الحقيقى يحمل فى داخله سيد قطب، وإن كان تفريغ حسن البنا للألفاظ كان أكثر حنكة وخبث من قطب، فقد كان الثانى مباشرًا وحاسماً فى الحكم على الأشياء، وبدا ذلك واضحاً أى تأثر البنا بقطب فى رسالة المؤتمر الخامس، وقد وصف الإخوان بأنهم «صفوة المجتمع» و«رجال الدعوة وخلاصتها»، أما قطب فكان يقول إن الجيل القرآنى الفريد أمام الفصام النكد الذى تعيشه المجتمعات المسلمة يسقط مباشرة فكرة التكفير على المجتمع.
ألغام فى فكر البنا
يؤكد مختار نوح أنه كتب مقدمة كتاب د.أحمد ربيع الغزالى «ألغام فى منهج الإخوان» وهو من أهم الدراسات فى نقد فكر الإخوان، وجاء فيه أن فكر «البنا» لم يكن على طريق الدعوة التى خطها رب العزة لنبيه فى قوله تعالى «فذكر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر»، وقد غلبت شهوة الحكم والسيطرة على منهج البنا، وباع من أجلها الدفاع عن وسطية الإسلام وسماحته وأسفر تأسيس الجماعة عن جيش من المسلحين بلغ اثنى عشر ألف مقاتل إخواني، وهؤلاء ليسوا مجهزين ضد أعداء خارجيين ولا كفار وإنما ضد أبناء وطنهم ودينهم.
اعتبر الشيخ الغزالى أن مؤسس الجماعة الإرهابية وضع كثيرًا من الألغام التى خدع بها جموع المسلمين، وكانت النواة واللبنة الأولى للتطرف، وهى إيجازًا:
اللغم الأول: المنهج الانقلابى حينما قال مؤسس الجماعة فى رسالة المؤتمر الخامس «فالإخوان لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامى قرآنى فهم جنوده وأنصاره وأعوانه وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدى كل حكومة لا تنفذ أوامر الله».
إن الفكر الانقلابى لمنهج مؤسس الإخوان هو الذى صنع المهووسين بالحكم ضد من وصفوهم بالكفار والفجار وأن كل من لا يؤمن بالمنهج الإسلامى يجب الخروج عليه وانفجر اللغم فى العالم الإسلامى ، وانطلق ذلك السعار ولم ينته حتى بعد سقوطهم المدوى فى مصر وبعض الدول العربية.
اللغم الثاني: المنهج الإقصائى إذ يقول البنا فى رسالة المؤتمر بلغة الحسم «العلاج الناجح أن تزول هذه الأحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها وانتهت الظروف التى أوجدتها ولكل زمان دولة ورجال كما يقولون».
هذه الروح الإقصائية التى تلبست ثوب النزاهة الفكرية والحكمة التاريخية، هى ما قادت الجماعة لارتداء ثوب الدين ثم اتهام الآخرين بالكفر والردة، وكان هو اللغم الذى انفجر بعد ذلك فى وجه الجماعة نفسها باتهامها من قبل أبنائها بالتخلى والنكوص عن أفكارها فى كل فترة عصيبة.
اللغم الثالث: بذور الكراهية التى تصنع العنف؛ إذ يقول البنا فى رسالة التعليم «أن تتخلص من صلتك بأى هيئة أو جماعة لا يكون للإخوان بها صلة وخاصة إذا أُمرت بذلك».
لقد وضع البنا بذور كراهية المجتمع ثم تكفيره بعد ذلك ، وجعل مشاعر الإخوان الصبيانية تنفجر بعد إعدادها غير مبالين بعواقب سفك الدماء المعصومة بل والبحث عن الأدلة الشرعية بعد سفك هذه الدماء لايجاد المبررات غير آسفين لمغبة الإقدام على خطاب الكراهية الذى انتشر كالنار فى الهشيم وتجرعت منه الأقليات المسلمة فى العالم الإسلامى الكبير بفعل خطاب الإسلام فوبيا، وكان هذا أيضاً لغم انفجر فينا فيما بعد.
جماعة الإخوان والنخب
تشكَّلت النواةُ الأولى لـ»الإخوان» عام 1928 على يد حسن البنا، وهذا الحدث تجده فى كتاب «ماذا يعنى انتمائى للدعوة» للمؤلف محمد عبده، كما جاء فى الموسوعة التاريخية الرسمية للجماعة.
ينقل الكتاب، كيف أَقدم البنا على التوجه للمقاهى والزوايا ليخطب بروادها وكانت طريقة دعوية مختلفة والواقع الدعوى لهذا الجيل من الأعمدة والأروقة الأزهرية، ثم الدروس فى المساجد الكبرى وتلقى العلم على أيدى أصحاب المدارس الفقهية المعتبرة مالكية وشافعية وحنبلية واحنافاً كما سعي إلى التواجد بين النخب الأدبية والحزبية الكبيرة متواجدة فى المجالس الثقافية والصحف، وسرعان ما استحوذت خطابات البنا، على قلوب العامة من أهالى الإسماعيلية ليس لذكاء البنا بل لضعف الخطاب الدينى فى هذا الوقت والغريب انه التف حوله ستة من أصحاب الحرف، الذين استأجروا غرفة متواضعة فى شارع فاروق، واطلقوا عليها اسم «مدرسة التهذيب للإخوان المسلمين». وهؤلاء هم: عبدالرحمن حسب الله «سائق»، وحافظ عبدالحميد «نجار»، وزكى المغربى «عجلاتي»، وأحمد الحصرى «حلاق»، وإسماعيل عز «جنايني»، وفؤاد إبراهيم «جنايني»، وحسن البنا «مدرس خط عربي»، وهنا تلاحظ تواضع المؤسسين الستة بجانب خلو الجماعة من النخب السيارة المعروفة باتجاهاتها الفكرية وثقافتها العميقة فى هذه الفترة.
كان الوضع السائد فى الثلاثينيات هو تفكك وانهيار الدولة العثمانية بجانب ركود دينى كبير فى كثير من المؤسسات العلمية التى تخاطب الجماهير المسلمة، ومن هنا نفذ البنا بخطة محكمة.
كانت قضية انهيار الخلافة العثمانية، من أكثر المفاهيم التى أثارت جدلاً كبيرًا فى هذا التوقيت من القرن الماضي؛ وقد أثار المستشرق «هملتون جيب» فى كتابه «الاتجاهات الحديثة فى الإسلام » مفهوم التفكير التجزيئى الذى ساد العلم الإسلامى آنذاك وكان أبرز من دعا لاستغلال هذه النزعة جماعة الإخوان؛ فكانت فى الظاهر تحمل رسالة عودة الخلافة وعن قصد دعت لتكوين أول جماعة فى التاريخ تدعو لتجزئة الأمة والتحزب والتعصب ومن ثم السرية بدافع تكوين الجماعة عملاً بالقاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».
وهكذا كما نري؛ وعن طريق شخصيات مغمورة لا تنتمى للنخب العلمية أو الفكرية أو السياسية، أسس البنا اللبنة الأولى للجماعة، وكانت أول شخصية ذات وضع فكرى وثقافى وأدبى يلتقى بها البنا ويقترب منها عن قرب هى شخصية سيد قطب زميله فى مدرسة دار العلوم فمع أنهما من نفس المولد «عام: 1906» وتخرجا فى نفس المدرسة «دار العلوم».. لكنهما فكريا عاصرا مرحلتين مختلفتين كليا قبل ان ينتقل قطب إلى الكلية ويبقى البنا فى المدرسة حتى يتخرج ويعين فى محافظة الإسماعيلية مدرساً للخط.
يعتبر كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية فى مصر الحديثة» لمؤلفه «جمس هيورث دان»، أول دراسة غربية عن حركة الإخوان، تتناول العلاقات النخبوية بين القادة والاتباع فقد كان الكتاب قبل أكثر من سبعين عاما ولم يترجم. قدّم للكتاب الباحث السعودى على العميم وأكد أن المؤلف «هيورث» يمتاز بكونه معايشاً ومراقباً للإخوان عن كثب فى طور تكوينهم وصعودهم. لم يرض بالطبع الإخوان المسلمون عن الكتاب، لأنه قدّم تاريخاً واقعياً لحسن البنا وحقيقة فكره الاجرامى وحقيقة حركته، فعتّموا عليه.
من الأمور التى كشفها الكتاب علاقة حسن البنا بسيد قطب فقد كان مؤلف الكتاب على علاقة شخصية بسيد قطب وتردد عليه فى منزله بشارع عبدالخالق ثروت فى أواخر الأربعينيات، وأهداه قطب الطبعة الأولى من كتاب «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» بحضور زوجة المستشرق الفنانة الشهيرة روحية خالد، والمثير أن تلك الفنانة اتصلت بقطب بعد اللقاء لمقابلته وحذرته بشكل ودى من صلات زوجها الاستخباراتية، وكان هيورث على أى حال هو من دعا قطب لرحلته الشهيرة لأمريكا أواخر الأربعينيات من القرن الماضي.
الكتاب يعد رصدا استخباراتيا أمريكيا مبكراً لأنشطة الجماعة وقياداتها لكن الأهم قول مؤلفه عن إمامهم الذى عرفه عن قُرب: «كان حسن البنا إنساناً غيوراً، فلم يستسغ منافسة سيد قطب له فى مجال الإصلاحات الاجتماعية على أُسس إسلامية. كان يريد أن يكون هو «الحبْر الأعظم»، وألا يكون ثمة «مسيلمة» آخر فى مصر… نجد فى أساليبه ما يذكرنا بغيبيات الإسماعيلية الباطنية أو الحشاشين، فقد كان عارفاً بالمبادئ التعليمية لإخوان الصفا، وقد اجتهد فى تقليد بعض أعمالهم فى رسائله، بيد أن المعايير الفلسفية لهاتين الحركتين أعلى بكثير من الإخوان بحسب المؤلف.
أسس حسن البنا الساعاتى جماعة الإخوان على هذا الفكر، وفى واقع سياسى مضطرب، فانتشرت الجماعة بشكل سريع وكبير، وقد صار لها تأثير على كثير من الشباب المتحمس لدينه ونظموا قصائد منشودة فى الثناء على حسن البنا، واشتهر عند أصحابه باسم الإمام الشهيد، وكتب سيد قطب «عبقرية البناء عند حسن البنا»، وتسللت بعض أدبيات الجماعة لمناهج بعض الدول بوصف مؤسسها «مجدداً».
لا شك أن أخطر تصورات حسن البنا هى اتجاهه لمخالفة الأمة وتأسيس تنظيم سياسى على أساس غير شرعى وهو ما دفع بتكوينات ابتدعتها كافة التنظيمات الدينية فيما بعد؛ فهو صاحب أول تنظيم وجماعة سرية فى العصر الحديث وتطور الأمر من السرية إلى تحويل السلوك الإسلامى لعمل مسلح بل والدعوة إليه وعمل بيعة عليه فى السر بعد اختيارات علنية.
وقد قامت جماعة الإخوان فى حياة البنا بعدة جرائم واغتيالات وتفجيرات من ذلك: قيام رئيس النظام الخاص « وهو تنظيم سرى عسكرى خصص لأعمال الجهاد فى سبيل الإسلام على حد تعبير مؤلف كتاب « حقيقة التنظيم الخاص « وهو من كتاب الإخوان فقد تم تكليف: محمود الصباغ» ومعه رجلان لاغتيال القاضى الخازندار بك بتهمة أنه لم يحكم فى القضايا بما يريدون، والذين قاموا بقتل «الخازندار بك» رئيس النظام الخاص يومئذ عبدالرحمن السندى ورجلان معه من النظام الخاص «راجع كتاب حقيقة النظام الخاص» ص255 – 259، ولهم بيعة فى التنظيم العسكري.
لذا فإن اعتبار سيد قطب أساس فكرة التنظيمات والعمل السرى وتكفير المجتمع، هو بناء على تصور خاطيء؛ فـ «البنا» بدأ من الفراغ وأنشأ من عدم وأقام من ركود، ووضع اللبنات الأولى للتكفير والقتل بينما «قطب» أكمل وأتم وبنى على ما فات، وبنت حركات الإسلام السياسى عليهما كافة التصورات الحركية والتنظمية لاحقًا.
قطب.. لم يغادر أفكار البنا
كانت أول خطوة فى فكر سيد قطب أو ما اطلق عليه طريق بعث الأمة الإسلامية هي وجود طليعة تعزم على تسلم القيادة، الأفراد الممثلون لهذه الطليعة، الذين انسلخوا عن المجتمع الجاهلي، والذين خلصت ضمائرهم من العبودية لغير الله من المجتمع الجاهلي، والجاهلية هنا التى يقصدها سيد قطب جاهلية أبوجهل الأولي، وقد اعتبر أن التخلص من تلك الجاهلية نواة ينشأ منها المجتمع المسلم.
لابد لهذه الطليعة المؤمنة من معالم فى الطريق تعرف منها طبيعة عملها، وحقيقة وظيفتها، وطلب غايتها، ونقطة البدء فى الرحلة الطويلة، كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب فى الأرض جميعاً، أين تلتقى مع الناس؟ وأين تختبئ؟ ما خصائص الجاهلية من حولها؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام، وفيم تخاطبها؟ ثم تعرف أين تتلقى هذا كله ؟ وكيف تتلقاه؟ هذه المعالم لابد أن تستقى من المصدر الأول لهذه العقيدة: القرآن.
من هنا لخص قطب أفكاره الأخيرة فى كتاب «معالم فى الطريق» للوفاء بهذا الغرض، والذى أسس للقطيعة مع المجتمعات المسلمة واعتبارها مفارقة لصحيح الدين والعقيدة وهو موجه لتلك الطليعة المرجوة المرتقبة، ولكى تؤدى هذه الجماعة رسالتها وتتسلم قيادة البشرية عليها أن تكون كجيل الصحابة، ذلك الجيل القرآنى الفريد؛ لأن القرآن والسنة اللذين خرجا ذلك الجيل ما زالا بين أيدينا، وغيبة شخصه صلى الله عليه وسلم لا تفسر عدم تكرار جيل الصحابة، ولكى تكون هذه الطليعة كذلك الجيل عليها أن تسلك المنهج الذى تخرج عليه، وهو يتمثل فى أن تستقى من القرآن وحده، ولا تخلطه بمنابع أخري، وأن تتلقى منه لتنفذ لا لتستمع أو تتثقف، وأن تعتزل الجاهلية المحيطة بها، وأول ما تلقاه ذلك الجيل القرآنى وأهم ما تلقاه من القرآن الكريم هو العقيدة، وبالعقيدة ينبغى أن تبدأ هذه الطليعة الجديدة.
إن أول ما ينبغى أن ندعو الناس إليه هو العقيدة كما حدد قطب فى المعالم حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، فقد ظل القرآن المكى ثلاثة عشر عاماً يتحدث فى قضية العقيدة ولا يتجاوزها إلى شيء مما يقوم عليها من التعريفات المتعلقة بنظام الحياة؛ لأن العقيدة هى الأساس الذى تقوم عليه وتنبثق منه كل تنظيمات الإسلام وتشريعاته، فإذا استقرت العقيدة فى النفس استسلمت للنظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، ولأن هذا الدين منهج عملى حركى جاد، ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلاً، والقرآن لم يعرض قضية العقيدة فى تلك الفترة فى سورة نظرية أو لاهوت أو جدل كلامي، وإنما كان يخاطب فطرة الإنسان، ولذلك لم يعرض القضية فى تلك الصور، وإنما عرضها فى صورة تجمع عضوى حيوي، وتكوين تنظيمى مباشر من الحياة ممثل فى الجماعة المسلمة ذاتها، وكان نمو هذه الجماعة ممثلاً لنمو البناء العقدي، كل نمو نظرى يسبق النمو الحركى الواقعى ولا يتمثل من خلاله هو خطأ وخطر، كذلك هذا هو المنهج الذى لا يقوم بناء هذا الدين فى أى وقت إلا به.
رسالة المؤتمر الخامس
وضع مؤسس الجماعة الإرهابية حسن البنا القاعدة فى رسالة المؤتمر الخامس ثم فى كافة تحركاته بان قعود الأمة والأفراد عن الإطاحة بالحكومات الكافرة فى ذلك المفهوم هو جريمة إسلامية لا يكفرها إلا الانخراط فى جماعة الإخوان والجهاد معهم لاستخلاص قوة التنفيذ من ايدى الذين لا يؤمنون بأحكام الإسلام الحنيف!
بمطالعة أفكار قطب سنجد ان الخلفية التكفيرية لمنهج المؤسس البنا هى التى اشتق منها سيد قطب كتاباته وصاغ منها نظريته وهو فى حالة وعى كامل أنه لم يتجاوز فكر البنا ولم يراوح منهجه وربما هذا الذى تأثر به قيادى الجماعات فرسم الصورة فى الزنزانة وصفناها فى بداية المقال فى بداية الطريق كانت رسائل حسن البنا.
والفرق بين سيد قطب وحسن البنا فى أسلوب العرض؛ فعرض البنا ومنهجه نابع من شخصيته التربوية المجمعة، فكان يتجنب مواضع الخلاف ولا يقتحم عليك ثوابتك ويتحاشى الصدام الفكري، فيقفز على الأمور الخلافية وصولاً لنتائج لا يختلف عليها أحد، كما يشير أحمد ربيع الغزالى فى كتابه فى «ألغام منهج الإخوان».
إذا أمعنا النظر فى المنهجين سنجد ان منهج المؤسس « البنا» قائم على فكر تكفير الحكام وأعوانهم وإعلان الجهاد ضدهم وتجهيز الكتائب والسلاح لقتالهم، بينما «قطب» يتعامل مع الواقع ويفرض شروطا جديدة فى هذا المنهج وهو ايجاد الطليعة المؤمنة التنظيمية المدربة ولا يعنيه التدرج فى التعامل مع المجتمع فيضع مشرطاً فى الموضع الذى يريد أن يتحداه ومن هنا كانت الكارثة التى صب فيها قطب جميع أفكاره.
نحن حين ننظر للإخوان الذين يرتدون عباءة الجماعة الإسلامية تارة وعباءة الحزب السياسى تارة أخري، لا نرى إلا نسيجا واحداً من مؤسسها وحتى اليوم، يفصل الشباب عن مجتمعه، ويدخله فى حالة استعلاء ثم صراع مع محيطه، وانقياد للقطيع دونما مناقشة، وانشغال عن أعداء الأمة الحقيقيين وافتعال عداء مع أبناء جلدتك وداخل بيتك.. عداء يقودنا لهدم الوطن لا بنائه حتى ولو بالقتل والإرهاب.