لماذا نكتب؟ عندما أكتب مقالا يتضمن فكرة جديدة أو مقترحاً انتظر تفاعلا من ذوى الصلة على المستوى الرسمى أو الفكرى فلا أجد إلا قليلا، وعندما أكتب مقالاً انتقد وضعاً أو قراراً ما أو حتى مسئولاً فى أى مستوى من المستويات انتظر كذلك رداً أو توضيحا أو حتى توبيخاً ولا أجد ذلك أيضا، وعندما أكتب مقالا أشيد فيه بقرار أو موقف لمسئول أجد من يتواصل معى منتقداً هذه الإشادة لأسباب جميعها تبدو شخصية، فالواقع لا يسر القلم ولا حملته ويجفف مداده تماما.
<<<
الغريب أن أحداً لا يتفاعل لا مع الأفكار ولا المقترحات ولا الشكاوى وكأننا نكتب لأنفسنا وللقارئ الكريم الذى يتفاعل لحظياً مع كل ما نكتب وهذا هو شعرة معاوية بيننا وبين القلم، كنت أظن أن المشكلة فى كتاباتنا أو طريقتنا أو صحيفتنا، اكتشفت أن المشكلة فى ثقافة بعض المسئولين الذين لا يحبون الصحافة والإعلام وينظرون إليها على أنها «باب يأتى منه الريح» بيد أن هناك نصيحة خبيثة من أحدهم تقول للمسئول: «لا ترد ولا تعلق وكل شيء سيمر بسلام» من هنا لا أجد تفاعلا انتظره اللهم إلا بعض الأفكار والعناوين التى تحمل جديداً فأجد شخصيات رصينة تتواصل وتناقش وتعلق وتتفق وتختلف.
أما على المستوى الرسمى فأنتقد المسئول أو أساله مستفسراً فلا أجد رداً من أى نوع، لقد كتبت مؤخراً عن قضية لامؤاخذة الحمير فى مصر والتصريحات التى صدرت وخلقت حالة من اللغط، وطالبت الجهات الرسمية أن تخرج ببيان رسمى تكذب ما قيل أو تؤيده، لكن لا هذا ولا ذاك حدث، من هنا اتساءل سؤالا يبدو بسيطاً ويحتمل إجابات متعددة جميعها صحيحة، لكن متى تكون الكتابة ضرورة وفرضاً؟ ومتى تكون نافلة؟ لكن الأهم هنا هو متى تصبح الكتابة بلا قيمة وتصبح الكلمات والأفكار هى والعدم سواء؟
فى تقديرى إذا لم تحمل الكلمات والعبارات أفكارًا جديدة متكاملة وقابلة للتطبيق لتساهم مع غيرها فى تغيير الواقع فلا قيمة للكلمات ولا وزن للمتكلم، فالكلمات كالطلقات لابد وأن تساهم فى إصابة هدف ما فى وقت ما، أما أن تطلق دون هدف فستتحول إلى مساحة من الضوضاء، لذلك نجد كلاما منمقاً ومرتباً وبليغاً لكنه لا يحمل بين طياته فكرة ولا يسير مع غيره ليكون مساراً معرفياً يتحول إلى مسار فكرى يساهم فى بناء آليات التغيير المجتمعى المستهدف.
ونجد أيضا على الجانب الآخر أفكارًا تبدو براقة لكنها تظل مكانها لا تقوى على الانتقال من مربع الفكرة إلى مربع التطبيق، فمعظم الأفكار الشيوعية والاشتراكية وأفكار اليسار بشكل عام يغلب عليها الطابع المثالى حيث الاستغراق فى ثنايا الرومانسية النظرية غير القابلة للتطبيق، فمعظم من تحدث عن العدالة الاجتماعية والمساواة والملكية الجماعية والتخطيط المركزى المفرط لم ينجح فى وضع خريطة لتنفيذ هذه الأفكار على أرض الواقع، اعتمد اليسار على النظريات المتكاملة التى تبدو براقة ومثالية وتدغدغ مشاعر الجماهير لكنها لم تقو على الوصول إلى أرض الواقع.
ونكمل غداً
إنها نظريات فى عقول المنظرين وكلمات فى أفواه المتكلمين والخطباء، كذلك استمرت تلك الشعارات فى اذن الجماهير تشنف اذانهم ولا تسد رمقهم، فكم مرة سمعت وتابعت حديث أحدهم عن العدالة الاجتماعية؟ وكم مرة تفاعلت وصدقت وآمنت بهذه الأفكار؟ لكن ألم تسأل نفسك مرة عن تطبيق هذه الافكار ومدى نجاح تلك المحاولات فى بيئات مختلفة؟ نفس الشيء نسمعه من معسكر الدول الديمقراطية ولكن على صعيد الحرية وحقوق الانسان والحكم الرشيد واحترام إرادة الجماهير.
لكن هل تطابقت الأقوال مع الأفعال؟ وهل لمست أثرا لهذه الفلسفات على أرض الواقع؟ وعلى صعيد ثالث وفى مدرسة الايديولوجيات الراديكالية التى أرادت البحث عن طريق ثالث فكان اختراع الاسلام السياسى والصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية التى بالغت فى تحريف وتأويل الكتب السماوية بالإضافة إلى تلك الأفكار المرتبطة باختراعات الأديان الأرضية مثل البوذية والهندوسية وغيرها، كل تلك التيارات تتحدث عن العدل والحرية والمساواة والحق والخير والجمال وعن ملائكية الحلول لمشاكل الأرض وعن الخلاص من الظلم والظالمين.
لكن هؤلاء لا يطيقون كلمة واحدة من مخالفيهم فى الرأي، هؤلاء يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما يمنعون الناس من فعله، الخلاصة أننا أمام أفكار ومدارس ثلاث جميعها لم تستطع تقديم خارطة طريق واضحة ومقبولة وقابلة للتطبيق على أرض الواقع، كل ما ساهمت به تلك المدارس هو اتساع دائرة الصراع والخلاف بين أفكار وايديولوجيات ومدارس تعمقت حتى باتت صراعاً بين الحضارات وانتهت بصراع مميت نعيش خلاله الآن بين الأديان.
كان الهدف من كل تلك المدارس هو راحة الإنسان وسعادته وشعوره بالعدل والمساواة مما يشيع جوا من الحب والاستقرار والشعور بالأمان بين بنى البشر، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، فلا النظام الديمقراطى حقق الحرية ولا النظام الديكتاتورى حقق الأمن ولا الرأسمالية صنعت الغنى ولا الاشتراكية قضت على الفقر، وكذلك أصحاب الايديولوجيات الدينية لم ينجح أحدهم فى تحقيق العدل ولا الحق ولا المساواة!
إذن ماذا عسانا نفعل فى وسط هذا الاخفاق الفكرى والتعثر الحضارى والضبابية الثقافية؟
ماذا يمكننا أن نقول ونفعل وسط عالم مشوه إنسانياً حيث تغلبت نزعات الشر على الخير وتعملق الباطل على الحق وصارت القوة هى الكلمة العليا فوق القيم الإنسانية؟ قولاً واحداً هناك مسارات تحتاج إلى فكر جديد ومختلف لكن أين هم المفكرون؟؟؟