فى نهاية القرن الثامن عشر الميلادى وبداية القرن التاسع عشر عاشت مصر مرحلة مهمة ساءت فيها أحوال المحاكم الشرعية بعد ان بدأ محمد على باشا وخلفاؤه العمل على تغيير الوضع القضائى المستقر فى البلاد منذ مئات السنين، وذلك بإيجاد كيان جديد لا يعتمد على القضاء الشرعى بل يتجه إلى التقنين الأوروبى الحديث ولينحصر دور المحاكم الشرعية فى نظر قضايا الأحوال الشخصية والمواريث والوقف، وتسلل إليها فى ذلك الوقت الفساد بعد ان أدارت لها الدولة ظهرها ولم تقدم لها يد العون.. وظل الأمر على هذا النحو من الإهمال إلى أن قامت نظارة الحقانية «وزارة العدل» بانتداب الشيخ محمد عبده لتفقد أحوال المحاكم الشرعية ومعرفة الخلل بها ووضع أفضل السبل لعلاجها.. وقد قدم الشيخ محمد عبده تقريراً عن ما وصلت إليه أحوال تلك المحاكم من سوء فى الأماكن والمبانى والأثاث وضعف مستور القضاة والكتبة وقصور المرافعات فيها وفى نفس الوقت كشف التقرير عن تقصير الحكومة تجاه تلك المحاكم.. وتضمن التقرير وسائل النهوض بتلك المحاكم من توسيع اختصاصاتها وعدم تقييدها فى إصدار الأحكام بالمذهب الحنفى والنهوض بمستوى القضاة وتحسين مرتباتهم وانتقاء العناصر الجيدة للعمل فى هذا الميدان.. واختتم التقرير بطلب إنشاء معهد خاص يتم اختيار طلبته ممن يدرسون فى الأزهر ويعدون إعداداً جيداً لتولى منصب القضاة.. ومن هنا صدر عام 1907 منشور بإنشاء مدرسة القضاء الشرعى والتى استمرت قائمة حتى عام 1928 حيث ألغيت والحقت بالجامعة الأزهريّة الناشئة . وقد ضمت المدرسة قسمين الأول لتخرج الكتبة والثانى لتخريج القضاة والمحامين.. وقد كان لهذه المدرسة الفضل فى تكون جيل من العلماء الموسوعيين فى كافة المجالات استطاع ان يقود الحياة الثقافية فى مصر والعالم العربى ردحاً من الزمن، كما استطاع هذا الجيل ان ينير الطريق الثقافى للأجيال التى جاءت بعده لتبنى على مجهوداته وتكمل المسيرة.. وقد اختير طلاب هذه المدرسة من نابغة أبناء الأزهر بعد اجتياز امتحانات عسيرة، فضمت أحمد أمين الذى اجتاز الاختبارات واختير لها ناظر كفء هو عاطف باشا بركات الذى صاحبه أحمد أمين ثمانية عشر عاماً وتخرج من المدرسة عام 1911 حاصلاً على الشهادة العالمية ليعين معيداً بها ويتعلم الإنجليزية ليتحدثها بطلاقة.. وكان الشيخ محمد عبده سبق إنشاء المدرسة بمحاولات لإصلاح الأزهر إلا انه واجه عقبات كثيرة بالرغم من انه ركز على تطوير الامتحانات وتنظيم شئون الطلاب ولم يمس نظام التدريس أو المناهج وإدخال العلوم الحديثة.. وكان للشيخ منهج إصلاحى يرتكز على البدء بالتعليم لذلك أراد ان يصلح المحاكم الشرعية عن طريق إصلاح مناهج التعليم الأزهرى وتحديث الطرق المستخدمة فى التعليم لتحسين مستوى الخريجين، واستطاع ان يضع نظاماً دراسياً وان يحدد الكتب المقررة ومدة الدراسة والميزانية إلا ان وفاته أخرت التنفيذ.. وقد احيا تلامذته المشروع ثم قام وزير المعارف فى ذلك الوقت سعد زغلول باتخاذ خطوات تنفيذية لإنشاء المدرسة.. وقد تحمل سعد زغلول عبء القيام بهذه المهمة الكبيرة واسند لابن اخته عاطف بركات مهمة إدارتها فكان أول ناظر لها، وعند نشأتها كان عدد الأساتذة 24 أستاذاً منهم 11 من الأزهر وفى عام 1909 وصل عدد الأساتذة إلى 31 منهم 24 من علماء الأزهر.. ومن المعلومات الطريفة عن مدرسة القضاء الشرعى شروط التقدم وتكلفته التى كانت تناسب وقت إنشاءها فقد ذكر فى اللائحة الداخلية لها انه على الطالب الراغب فى دخولها ان يقدم إلى ناظرها فى التاريخ الذى يعلن بالجريدة الرسمية طلباً محرراً على ورقة دمغة ثمنها ثلاثة قروش وان يكون حاصلاً على شهادة العالمية على مذهب الإمام ابى حنيفة وان يقدم شهادة دالة على حسن أخلاقه وانه لم يسبق الحكم عليه بسبب امر مخل بالشرف وألا يزيد سنه عن 30 عاماً، على ان يخضع الطالب لكشف طبى لمعرفة حالته الصحية ولا يعتبر الطالب مقبولاً إلا إذا تبين انه صحيح الجسم سليم من العاهات المانعة من توليه وظيفة القضاة.. وقد ضمت اللائحة شرطاً ينص على ان الأولوية فى القبول للأسبق فى الترتيب فى امتحان شهادة العالمية.. ويصرف لكل طالب بالمدرسة إعانة شهرية ثلاثة جنيهات.. أما بالنسبة للدرجات التى خصصت للطلبة فقد كان أعلاها للأخلاق يليه فى الترتيب الانضباط فى المواعيد وبعد ذلك المواد التعليمية من الفقه والتشريع وأصول الفقه ومقارنة المذاهب الأربعة فى الأحوال الشخصية والتوثيقات الشرعية وتاريخ القضاء والقضاة فى الإسلام ولائحة المحاكم الشرعية وأصول القوانين ونظام القضاء والإدارة والمجالس الحسبية.. وهكذا تصدرت مصر دائماً التحديث فى التعليم والثقافة منذ القرن الثامن عشر وما سبقه.