قاومت مصر الاحتلال البريطانى لأرضها على مدى ثلاثة وسبعين عاماً حتى تم توقيع اتفاقية الجلاء بعد عامين من قيام ثورة يوليو.. وقاومت مصر العدوان الثلاثى البريطانى الفرنسى الإسرائيلى بعد ذلك بعامين، ثم قاومت الاحتلال الإسرائيلى بسيناء لمدة ست سنوات من حرب الاستنزاف، حتى نجحت فى تحرير كل شبر من التراب الوطنى بحرب أكتوبر المجيدة، ثم سلماً بالمفاوضات، وأخيراً بالتحكيم الدولى فى قضية طابا.
قاومت مصر الاحتلال عبر ثلاث ثورات.. ثورة أو «هبّة» عرابي، وثورة ٩١٩١، وثورة يوليو.
قاومت مصر الاحتلال ـ كدولة ـ بطريقة رسمية معلنة أمام عصبة الأمم، ثم أمام الأمم المتحدة، وقاومت بطرق شعبية شاركت فيها أحزاب سياسية ومنظمات سرية وعلنية.. مقاومة مسلحة وغير مسلحة، كانت تحدث خسائر مادية وبشرية فى صفوف قوات الاحتلال، وكان يسقط فيها شهداء مصريون من كل فئات وطوائف الشعب، ومن كل الأعمار.
لدينا علامات مضيئة للمقاومة الوطنية والتصدى للاحتلال تفوق الحصر، عبر تاريخ نضالنا الوطني.. نتذكر رصاص الاحتلال الذى كان يطلق على المتظاهرين المدنيين العزل فى ثورة ٩١٩١.. نتذكر فتح كوبرى عباس بالجيزة أثناء مرور مظاهرة لطلبة جامعة القاهرة ليسقطوا شهداء فى مياه النيل.. لدينا شهداء دنشواى من الفلاحين الأبرياء الذين أعدمهم الاحتلال.. لدينا معركة الشرطة فى الإسماعيلية ضد قوات الاحتلال.. لدينا مذبحة أطفال مدرسة بحر البقر الذين قتلتهم طائرات الفانتوم الأمريكية فى غارة إسرائيلية خلال حرب الاستنزاف أملاً فى كسر إرادة المقاومة لدى الشعب المصري.
كُتب التاريخ وسجلاته تمتلئ بمثل هذه الصور من المقاومة الوطنية للاحتلال.. أتذكر عندما كنت طالباً بالجامعة أن لفت نظرى مع زميلين لى كتاب صدر وقتها ـ فى بدايات ستينيات القرن الماضى بعنوان «الكفاح السرى ضد الانجليز» يمتلئ بقصص موثقة للمقاومة المصرية الوطنية للاحتلال البريطاني.
وعرفنا نحن الثلاثة من الكتاب أنه صادر عن جريدة «الجمهورية» وأن مؤلفه يرأس القسم الاقتصادى بالجريدة واسمه «وسيم خالد» ينتمى إلى عائلة المفكر خالد محمد خالد، وأنه أحد أبطال المقاومة السرية ضد الانجليز.
ولأننا كنا نقود وقتها أول جماعة للصحافة تشهدها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قررنا الاتصال بالمؤلف، وحدد لنا موعداً للقائه بمكتبه بالجريدة، فقد كان ـ كما علمنا ـ مريضاً بالقلب ـ وكانت تلك أول زيارة لى شخصياً ولزميلى لـ «الجمهورية» حيث أفاض فى شرح تفاصيل مبهرة لم يتضمنها الكتاب، لتضحيات المصريين من زملائه فى مقاومتهم للاحتلال.
فى كل هذه المراحل، لم يخش المصريون مواجهة بريطانيا العظمى وقواتها العسكرية تطبق على أنفاسهم وكانت يومئذ امبراطورية لا تغرب عنها الشمس، حيث كانت مستعمراتها تتوزع بين مشارق الأرض ومغاربها.
ولم يخش المصريون بعد ذلك مواجهة الجيش الإسرائيلى الذى كان موصوفاً بأنه «لا يقهر»، ولا سلاح الطيران الإسرائيلى الأمريكى الصنع الذى كانت «يده الطويلة» قادرة على الوصول إلى أى مدى تحتاج الوصول إليه.
واختلفت فصائل وقوى المقاومة الوطنية المصرية فى الأيديولوجيات والمشارب.. كانت منها أحزاب وتنظيمات يسارية شيوعية، وجماعات إسلامية وغير إسلامية، وأخرى يمينية.. لكنها كانت دون اتفاق مسبق، أو ترتيب مع بعضها أو خارجها ترفض الاحتلال، وتتفق على حقها فى تحرير الأرض والشعب والوطن منه بكل ما يتاح إليها من وسائل: كل بما يراه مناسباً أو متاحاً له.
هذه فقط لمحات من نضالنا الوطنى فى التاريخ الحديث والمعاصر، وهو امتداد لما قام به الأجداد القدماء من تصد لغارات الهكسوس، والتتار وغيرهم الذين كان مصر مقبرة لغزواتهم.
ولم يكن أحد يقيس يومها المعارك بكم تكلفنا من ضحايا، ولا كم خسرنا من أموال أو منشآت.. وإلا ما كنا نفخر فى كل وقت بأننا قدمنا مائة ألف شهيد فى معاركنا المختلفة، وبينها ما كان لنصرة أشقائنا وفى مقدمتهم الفلسطينيون.
ولا كانت هذه قصة مصر فقط، بل قصة كل دولة تعرضت للاحتلال الأجنبى أو شعب تعرض لسلب أرضه وإنكار حقوقه المشروعة فى استردادها وتقرير مصيرها.
كان هذا على مدى التاريخ، قديمه وحديثه، وعلى امتداد قارات العالم الست.
ولقد أضافت مصر لمجدها الوطنى الخاص فى رفض الاحتلال ومقاومته مجداً آخر قومياً وعالمياً وهو قيادة حركة التحرر الوطنى لدول وشعوب قارات الجنوب الثلاث: أفريقيا ـ آسيا ـ أمريكا اللاتينية، اعترافاً بحق هذه الشعوب فى النضال المسلح أو السلمى ضد الاحتلال حتى تحقيق النصر والاستقلال، وهو حق خالص لكل شعب أو دولة، لا تحتاج ممارسته إلى استئذان، لأنه من الحقوق الطبيعية والفطرية للإنسان.
ولو لم تفعل الشعوب ذلك، ما تحرر منها شعب واحد، لأن الاحتلال لا يرحل طواعية أبداً، ولكن يرحل فقط بالمقاومة والصمود اللذين يجعلانه يشعر أن تكلفة بقائه باتت أكبر كثيراً مما يحققه استمراره من فوائد.
ولو أن شعب الجزائر الشقيق مثلاً عندما احتلته فرنسا لمدة مائة وثلاثين عاماً، قد استسلم خلالها ولم يقاوم، أو حسب بالورقة والقلم نتائج مقاومته فى أى لحظة، أو تشاور مع أحد إن كان الأفضل له أن يقاوم أو ينتظر أن يحل أحد له مشكلته، ما كان ضحى بمليون شهيد حتى خلع أطول احتلال استيطانى عمل بكل الوسائل على طمس الهوية الوطنية والقومية للجزائريين، وأثبت أنه شعب تستعصى إرادته على الكسر.
ولو كان ما فعله خطأ من وجهة نظر التاريخ والبشرية جمعاء أو مغامرة غير محسوبة، ما كنا اعتبرنا الجزائر «أيقونة» النضال العربى ضد الاستعمار والاحتلال وأطلقنا عليها «بلد المليون شهيد» تمجيداً لنضالها وفخراً بتضحيات شعبها.
التاريخ تاريخ.. والمجد الوطنى يظل مجداً مهماً تغيرت الظروف أو تقلبت الأحوال، وإلا ما كنا اليوم نترك لشبابنا أسماء أحمد عرابى وسعد زغلول وعبدالناصر خالدة على محطات مترو الأنفاق ومئات من أسماء أبطال وشهداء الجيش والشرطة فى معركتنا الأخيرة ضد الإرهاب على المدارس والشوارع والميادين.
وإذا كنا نعيش اليوم مرحلة صعبة على المستوى القومى العربي، تختلط فيها الأوراق، وتتقاطع فيها الشراكات، بفعل موجات عاتية من حروب تزييف التاريخ وتغييب الوعى القومى ومحاولات تضليل الأجيال الجديدة، فما لدينا من رصيد المقاومة قادر على الصمود فى وجه هذه الموجات وهزيمتها.
والدليل، أن ما يجرى الآن ضد الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية من حرب إبادة جماعية على يد الكيان الصهيوني، وبأسلحة أمريكية ودعم سياسى من الفيتو الأمريكى لاستمرار الإبادة قد أيقظ المشاعر القومية فى الشارع العربى من المحيط إلى الخليج، وكانت قطاعات الشباب من الأجيال الجديدة هى الأكثر تأثراً وتفاعلاً إيجابياً فى رفض هذه الجريمة غير المسبوقة.
ولعل المساهمة الفعلية من شباب التحالف الأهلى للمنظمات المدنية المصرية فى كل ترتيبات جمع وإعداد ونقل قوافل المساعدات الطبية والغذائية إلى أهلنا فى غزة أوضح دليل على الاستجابة السريعة، الموضوعية والعملية للنداء القومى بدعم نضال الشعب الفلسطينى وصموده فى مواجهة احتلال مهما طال، فما له، مثل كل احتلال.. إلى زوال.