فى الذكرى الـ48 لرحيل العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ الذى غيَّبه الموت عنا فى 30 مارس، من عام 1977 فى لندن، بعد مسيرة حافلة بالعطاء الفني، قدم خلالها العديد من الأغانى والأفلام السينمائية التى ما زالت تعيش فى وجدان كل محبيه وعشاق فنه فى كل مكان، يثور سؤالٌ مهمٌ: لماذا لم تنجب مصر «حليم» آخر ولا أم كلثوم جديدة..ولا مبدعًا رائعًا مثل محمد عبدالوهاب موسيقار الأجيال..؟!
«حليم» أبدع فى كل ألوان الغناء، تألق فى الأغنية العاطفية، حتى صار أيقونة زمانه، وألهب بصوته عاطفة الشباب وأحلامهم الرومانسية فتوحدوا مع أغانيه وعشقوا صوته لدرجة أن رحيله مثَّل صدمة للبعض ففارقوا الحياة حزنًا وكمدًا لرحيله.
كما تألق «العندليب» فى الأغنية الوطنية فتوحدت معه أطياف وفئات شتى من الشعب، ونجح فى إيقاظ الحس الوطني، وتغذية الشعور بالانتماء للوطن فعبرنا نكسة يونيو 67 إلى نصر أكتوبر العظيم الذى أعاد الروح والكرامة لمصر.
أما الأغنية الدينية فلم تكن أقل نصيبًا من الذيوع والانتشار اللذين حققتهما الأغنية العاطفية والوطنية عند المبدع عبد الحليم حافظ الذى أثبت أنه فنان شامل قادر على التأثير والأداء المبدع فى كل فنون الغناء والتمثيل معًا.
والسؤل: لماذا صار حليم مبدعًا بطعم الخلود بينما مطربو هذه الأيام لا يعدون أن يكونوا مجرد صدى صوت باهت أضعف تأثيرًا وأقل قيمة فنية وتراثية..؟!
والإجابة ببساطة أن «حليم» أخلص لفنه وتفانى فى تجويده حتى لامس القلوب بصدقه وإيمانه برسالته..وهو ما يطرح سؤالًا مهمًا: كيف يمكننا ان نعيد للفن سموه وقوة تأثيره فى بناء الإنسان بصورة أكثر تهذيبًا وإحساسًا بالحياة..!؟
لا شك أن للفن بريقًا وسحرًا يأسر القلوب.. وللموسيقى والأغنية على وجه الخصوص تأثير عابر للأجيال ورغم مضى عشرات السنين فإننا نجد أغانى عاطفية لأم كلثوم أو للعندليب مثلا يدندن بها شباب اليوم رغم اختلاف ذوقه وبعده عن التراث وانغماسه فى التكنولوجيا ..أما الأغنية الوطنية فهى الأكثر ارتباطاً بالوجدان الشعبى والأكثر التصاقاً بالذاكرة الوطنية ومن ثم تعلو مكانتها بحسبانها جزءاً أصيلاً من نضال شعبنا، وعلامة فارقة على تاريخنا ..ومن هنا تحقق لها الخلود ، وصارت عابرة للعصور..وهو ما لا نراه فى كثير من أغانى اليوم التى لا تصمد فى الذاكرة ولا تترك تأثيراً يذكر حتى فى نفوس من يحرصون على سماعها؛ ما يؤكد أن الغناء ليس مجرد صوت مترنم يشدو بلحن جميل بل إحساس وإيمان بقيمة الكلمة الصادقة التى تملك الوجدان وتحدث التغيير وتصوغ الذوق والإحساس.
الفن كغيره من أدوات الثقافة بمثابة جهاز مناعة وظيفته تحصين الوطن ضد كل ما هو دخيل أو معادٍ، وهو رسالة تنوير وصيحة تحذير ضد كل ما من شأنه الإضرار بوعى الناس أو الانحراف بهم عن الفضيلة والأصالة والوعى الصحيح بواجبات الوقت ومقتضيات المواطنة..كما يدرأ عنهم كل محاولة لاستلابهم أو إفساد ذوقهم بأعمال هابطة غنائية كانت أو تمثيلية أو حتى توك شو.
إفساد الذوق العام جريمة مكتملة الأركان فى حق الشعوب والأوطان؛ فهو إن حدث يخلق أجيالا قابلة لمعاداة وطنها وإسقاطه من داخله دون أن يطلق أعداؤه رصاصة واحدة..وإذا لم يكن الفن هادفاً وقادراً على تغيير واقع سييء للأفضل فلا خير فيه بل لا يصح اعتباره فناً من الأساس فهو سلاح مدمر يستهدف ضرب الدولة فى أعز ما تملك؛ ثروتها البشرية التى هى أهم مقومات بقائها واستقرارها.
الفن مرآة تعكس حقيقة ما عليه الشعوب وما تؤمن به وما تتحلى به من قيم، ويمكنك التنبؤ بحالة أمة إذا ما عرفت ما يفضله شبابها ونشؤها من أغانٍ وفنون وهوايات ورغبات.. فتلك أدوات لا تخطيء سبيلها للتشخيص الدقيق لمستقبل أى أمة ومصيرها.. وحتماً فإن الإنسانية سوف تتحسن أحوالها إذا ما أخذت الفن على محمل الجد فهو الأكثر نفاذا لذاكرة الشعوب والأكثر قدرة على بناء الذوق السليم وتهذيب الشعور واستنبات الحس الراقى والإحساس الصادق المتصالح مع نفسه ومع الحياة ذاتها..فهل أدركنا خطورة الفن فى حياة الشعوب؟!
العندليب الأسمر انتهج الفن الملتزم، فكان إبداعه مساندًا للدولة يشد من أزر قيادتها فى الشدائد والمفترقات الصعبة فكان لأغانيه تأثير لا يدانيه تأثير، وصنع ببضع كلمات بصوته ما عجزت عن صنعه مئات البرامج والمقالات والكتب.
الأمر الذى يجعلنا نقول: ليتك كنت بيننا اليوم يا حليم فنحن فى أشد الحاجة لمثلك فى ظروف وتحديات بالغة الصعوبة..!!
«حليم» رحل تاركاً رصيداً هائلاً من حب الجماهير، وعدداً قيماً من الأغانى نحو 67 أغنية وطنية..منها 10 أغنيات جسدت حالة حزن اعترت المصريين بعد نكسة يونيو 67.. ويحضرنى ما قاله الراحل عبدالرحمن الأبنودى إنه بعد وقوع النكسة أقمنا فى الإذاعة أنا وحليم والطويل ثلاثة أشهر متصلة ، أنا أكتب الأغاني، والطويل يلحنها، وحليم يغنيها..وكنا وقتها نشفق على الشعب من هول الصدمة؛ فجاءت الأغانى معبرة عن تلك الحالة وحاولنا رفع معنويات الشعب بأغانٍ مثل « ابنك يقولك يا بطل «، و»أحلف بسماها وبترابها» التى ظل حليم يرددها حتى عادت سيناء مصرية ..و «عدّى النهار» وهى من أهم الأغانى التى عكست حالة حزن ألمت بـ»حليم» إثر النكسة، ولمَ لا، والعندليب كان يملك حساً وطنيًا عالياً، جعله مهموماً بآمال أمته العربية كلها.
كما غنى العندليب «المركبة عدّت» بعد نصر أكتوبر وعودة القناة فى احتفال مهيب أقيم على ضفافها ..ولا يزال «حليم» بعد كل هذه السنوات حاضراً بقوة كقيمة ورمز فى وجدان المصريين وجزءا من ذاكرتهم الوطنية..ولا تزال الأوبرا تخصص لأغانيه حفلات سنوية يشدو بها كبار المطربين..فشتان بين ما قدمه حليم وما يقدمه البعض فى يومنا هذا من سخافات يدعون أنها «غناء».
العندليب ورفاقه قدموا إسهامات فنية ووطنية كبرى كرست تماسك الجبهة الداخلية والتفاف الشعب خلف قيادته.
وكان لنصر أكتوبر تأثير مختلف ومذاق خاص، فقد حظى بحالة فريدة من الصدق الفنى لأغنيات عديدة مثل «باسم الله الله أكبر باسم الله» للمجموعة، و»أنا عالربابة باغني»لوردة، و»يا أول خطوة فوق أرضك يا سينا»، «الباقى هو الشعب» لعفاف راضي، و»لفى البلاد يا صبية»، و»قومى إليكِ السلام يا أرض أجدادي!»، و»صباح الخير يا سينا» لحليم..
ورغم معاناة حليم مع المرض؛ إذ رحل عن عالمنا بعد صراع طويل مع مرض البلهارسيا الذى تسبب فى إصابته بتليف الكبد الذى أودى بحياته لكنه امتلك إرادة فولاذية تسامى بها فوق الألم، ولم يتوان لحظة عن مواصلة الإبداع ليسعد جمهوره الذى توحد معه وعشق صوته وأداءه وكتب له صفحة من الخلود فى كتاب الزمان..!!
مات حليم بعد صراع طويل مع فيروس سى الذى اكتشف العلماء علاجا ناجعا له.. ولكنه يبقى فى وجدان الناس بفنه وأغانيه التى أبدا أبدا لن تموت.. وخرجت الجماهير الغفيرة فى جنازة مهيبة لتودعه.. يرحمه الله.