اتفقنا جميعاً على أن السياسات والرؤى والاستراتيجيات، لا تتغير برحيل الأشخاص وزراء أو مسئولين.. لكن مع تصريحات الحكومة الحالية أو الجديدة، هناك من يتحدث عن تطوير التعليم ووضع استراتيجية جديدة للتطوير ونظام جديد للثانوية العامة وتتم تجربته فى إحدى المحافظات.. ومع احترامي، فإن تطوير التعليم والثانوية العامة ليس حقل تجارب أو التطبيق التدريجي، وليس كنظام أو مشروع التأمين الصحى الشامل يجرى تطبيقه.. فالأمر يختلف تماماً، والتلاميذ ليسوا حقل تجارب.. وكلما رحل وزير، جاء الوزير الجديد بسياسة ورؤية جديدة تحتاج إلى أن نبدأ من الصفر، ولا نحرز أى تقدم.. فالدكتور طارق شوقى وزير التربية والتعليم الأسبق، وضع رؤية لتطوير التعليم.. اختفت عندما جاء الدكتور رضا حجازى وزير التعليم السابق، ليضع رؤيته واستراتيجيته الجديدة.. وعندما تولى محمد عبداللطيف وزير التربية والتعليم الحالي، بدأ الحديث عن تطوير التعليم والمنافسة العامة.. وأشار إلى التطبيق التجريبى فى إحدى المحافظات.. وأتساءل هنا: لماذا لم ينتظر ما يتوصل إليه الحوار الوطنى من رؤى ومخرجات؟!، ولماذا لم يتصفح رؤى ومقترحات من سبقوه؟!، وهل يُعقل أن يطبق نموذج تطوير الثانوية العامة فى احدى المحافظات على سبيل التجربة؟!..
والوزير دائم الحديث عن أزمة كثافة الفصول فى ظل الزيادة السكانية التى تعانى منها مصر ومحدودية الموارد والقدرات، خاصة أننا نحتاج إلى 60 ألف فصل دراسى جديد سنوياً، بتكلفة ربما تزيد فى الوقت الحالى على 100 مليار جنيه سنوياً، خاصة أن تقديرها بـ 6 مليارات جنيه قبل تداعيات الأزمات الاقتصادية العالمية والإقليمية وما أدت إليه من ارتفاع حاد فى التكلفة ومستلزمات البناء.. ولا أدرى كيف يحل الوزير الحالى أزمة كثافة الفصول؟!.. وربما أرى أن يقسم الأسبوع الدراسى بين التلاميذ والطلاب، هو الحل الأقرب، بمعنى أن نصف التلاميذ فى مصر يذهبون إلى المدرسة مثلاً أيام السبت والأحد والاثنين مع بدء اليوم الدراسى من السابعة صباحاً وحتى الثانية أو الثالثة عصراً، ثم يذهب النصف الآخر أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، أو يمكن تعويض الساعات المفقودة من نظام الثلاثة أيام بزيادة ساعات اليوم الدراسى ساعة مبكراً وساعتين تأخير، ويمكن منح التلاميذ فرصة الـ ٤ أيام للتعليم على الـ «أون لاين» إذا تطلب الأمر.. لكننى لا أحبذ الصباحى والمسائي، لأنه إهدار لطاقات المدرسين فى ظل نقص الأعداد، وأيضا ظلم للتلاميذ فى الفترات المسائية.
ظاهرة الحديث عن استراتيجيات جديدة للتعليم والسياحة أيضا، تستدعى تساؤلاً مهماً: أين الاستراتيجيات والرؤى السابقة؟!، ولماذا يتم تغييرها الآن؟!، وهل الجديدة تتسق مع رؤية «2030»؟!، وبعد تطبيق القديمة من يتحمل إهدار الوقت والأموال على رؤى لم تحقق عوائدها طبقاً لوجهة نظر الوزراء الجدد؟!.. أعتقد أن بعض وزراء الحكومة عليهم التريث والتأنى فى إطلاق العنان للتصريحات والوعود.. وهناك وقفة مع التصريحات المتناقضة والوعود الصارخة التى ترفع سقف طموحات المواطن، فى ظل تداعيات اقتصادية لأزمات وصراعات دولية وإقليمية معقدة.. ومن وجهة نظري، لابد من تغيير الخطاب الحكومي.. والدكتور مصطفى مدبولى رجل شديد الواقعية والعقلانية.. وبالتالى عليه أن يصدر توجيهاته لأعضاء الحكومة بالتوقف عن إطلاق العنان للتصريحات الوردية والوعود وأحاديث الرؤى والاستراتيجيات الجديدة.. وتخاطب الناس بلغة الواقع الذى نعيشه.. وعلى الوزراء الجدد أن يتعلموا مفردات الكياسة السياسية، فالأفضل من وجهة نظرى أن تعرض للناس وتصارحهم بحجم التحديات الوجودية التى فرضتها الظروف والتداعيات القاسية للصراعات الدولية والإقليمية الكامنة وآثارها على مصر.. بل إن مصر هى الهدف الرئيسى منها.. وما يواجه هذا الوطن من تهديدات وجودية.. وأن الهدف الاستراتيجى للدولة المصرية فى هذا التوقيت المعقد، هو البقاء والحفاظ على سلامة هذا الوطن، وعلى أمنه واستقراره ومقدراته وموارده الوجودية وأرضه وسيادته.. لأن كل ما نتحدث عنه من أمور داخلية، يهون أمام التحديات والتهديدات التى تطوق مصر من كافة الاتجاهات الاستراتيجية، من الجنوب، والقرن الأفريقي، والبحر الأحمر، وباب المندب، والغرب والشرق.. وما يحدث فى المنطقة من صراعات واحتمالات تقارب الواقع من اتساع رقعة الصراع، فى ظل خطر تصاعد الموقف على الجبهة اللبنانية، وشن الكيان الصهيونى هجوماً شاملاً على لبنان ينذر بالحرب الشاملة التى تهدد أمن واستقرار الإقليم واندلاع المواجهات.. وفى ظل تصاعد الموقف بين حزب الله واسرائيل من ناحية، والحوثيين فى اليمن واسرائيل، ووسط تهديدات وتحذيرات إيران، وإعلان الرئيس التركى رجب طيب أردوغان وتهديده بالتدخل العسكرى لمواجهة العدوان الاسرائيلى على قطاع غزة والفلسطينيين.. ومع استمرار حرب الإبادة والمجازر الصهيونية فى حق الفلسطينيين فى قطاع غزة والضفة.. إذن نحن فى منطقة شديدة الاشتعال وقابلة للانفجار فى أى وقت، فى ظل حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة وتمسكه بالعداوات وإشعال الصراع من أجل حماية نفسه.. والغريب، أن يجد من يصفق له كما حدث خلال كلمته فى الكونجرس الأمريكي، وهناك انتخابات أمريكية تنذر بخطر داهم على الداخل الأمريكي، وأيضا أن تأتى باختيارين أحلاهما شديد المرارة، وفى ظل استمرار الحرب الروسية– الأوكرانية وتنامى الصراع الدامى والمعلن والخفى بين النظام العالمى القديم القائم والجديد المتطلع.
لذلك.. المواطن المصرى يجب أن يعلم ويدرك ما تفرزه هذه الصراعات وتداعياتها على مصر ووجوبية الاستعداد الاستراتيجى لكافة والاحتمالات والسيناريوهات، رغم تمسك مصر بأعلى درجات الحكمة والصبر الاستراتيجي، وهذا الاستعداد واليقظة لها تكاليفها وفاتورتها.. فلابد أن نعلم جميعاً أن الاستعداد لكل الاحتمالات والسيناريوهات والظروف له متطلباته الاقتصادية، وهو ما يستلزم بناء وعى حقيقى لدى الشعب، لأنه أمر يتعلق بمصيره ووجوده وأمنه وأمانه واستقراره ووطنه.. مصر لا تسعى للحرب وتعلى من شأن الحوار والدبلوماسية ونبذ الصراعات.. ولكن السؤال: ماذا لو فرضت علينا؟!، أليس لها متطلبات واحتياجات ورؤى واستراتيجية ومخزون استراتيجى وتكلفة باهظة، فى حال احتدامها– لا قدر الله؟!.. فمصر لن تتنازل عن ثوابتها المقدسة وحقوقها المشروعة وأرضها وحدودها وثرواتها وشرفها الوطني.
لذلك.. أقول للوزراء: خاطبوا الناس بلغة الواقع.. وما هو قابل للتنفيذ.. ولا تجعلوا الناس تستدعى ما قيل وما نُفذ.. وافعلوا مثل ما يفعل الفريق كامل الوزير، ولا أجامل الرجل، ذهب إلى تفقد الواقع والإلمام بالمشاكل والأزمات ومصادر البيروقراطية، ووضع تشخيصاً دقيقاً.. وبالتالى بدأ مسيرة الإصلاح والعلاج الناجع.. تعلموا من الرئيس عبدالفتاح السيسى وصراحته وشفافيته وواقعيته وقدرته على التحدى وتمسكه باستكمال المسيرة.. فقد أخرج هذا القائد العظيم مشروعات فى الأدراج، ظلت حبيسة لعقود طويلة.. وبرؤيته وإرادته الصلبة، حوّلها إلى واقع على الأرض.
أقول لبعض الوزراء: التواصل مهم وفعال ومطلوب.. لكن بخطاب رشيد وواقعي، حتى لا تصدموا الناس.. وتعلموا من الرئيس السيسى الحكمة والشفافية والمصارحة وعبقرية التواصل.. بدلاً من دغدغة المشاعر والوعود البراقة.