ـ يقولون إذا أردت لموضوع أن يموت ببطء فشكل له لجنة للدراسة والمتابعة، ولا أدرى لماذا يصيبنى الإحباط واليأس عندما اسمع عبارة «تشكل لجنة للدراسة فورا»، فمتخذ قرار تشكيل تلك اللجنة- أى لجنة- لم يتحرك من تلقاء نفسه وانما حركته كارثة حدثت أو مصيبة وقعت أو جاءه توجيه أو تكليف من جهة أعلي، معنى ذلك ان اللجان لا تشكل إلا فى أعقاب كوارث من أى نوع، وهناك العديد من اللجان التى تشكلت خلال سنوات طويلة بناء على توجيهات عليا بعد كوارث حلت بالمجتمع المصري، أتذكر لجان مخرات السيول بعد غرق درنكة وبعض قرى الصعيد ولجان مواجهة الغش بعد فضائح الغش الجماعى ولجان مواجهة الادمان بعد حوادث القتل الأسرى التى باتت شبه ظاهرة ولجان مواجهة الهجرة غير الشرعية بعد غرق المراكب فى عرض البحر المتوسط بآلاف الضحايا.
>>>
ولجان مواجهة الإرهاب بعد كل عملية إرهابية تهز اركان المجتمع ولجان مواجهة التسول بعدما اكتظت إشارات المرور بالمتسولين ولجان مواجهة الفقر بعد طفرات التضخم العالمية ولجان مواجهة الأمية بعد ان فشلت كل المحاولات واستمر المجتمع يعانى من أمية خمس عدد سكانه واخيراً وليس آخراً تم تشكيل عدة لجان دفعة واحدة لدراسة الدراما والإعلام والقوة الناعمة المصرية، وكل لجنة أعلنت عن أعضائها ونشرت صورهم البهية فى كل الصحف والمواقع وبدأ كل منهم يدلى بدلوه فى كل المساءل حتى قبل ان تجتمع لجنته، وانبرى الجميع إلى انتاج إستراتيجيات يراها كل منهم سفينة نوح لإنقاذ المشهد الفنى والإعلامى.
>>>
الغريب ان هذه اللجان المتناثرة المبعثرة الباحثة عن طوق نجاه من خلال استطلاع آراء الخبراء والمختصين لا يجمعها إطار فكرى او قيمى معروف يمكن ان نعول عليه ولو على سبيل التفاؤل المفرط، لكن للأسف فكل اللجان تم تشكيلها بدافع السباق المحموم للاستجابة لملاحظات السيد الرئيس، وهذا أمر وان كان جيداً من حيث الشكل إلا انه ليس كذلك من حيث المضمون، فكل الجهات التى سارعت بتشكيل لجان وتسابقت فى عقد الاجتماعات ونشر الصور مع ابتسامات بلهاء بلا معنى كان يجب عليها ان تفعل ذلك من تلقاء نفسها ودون الحاجة إلى توجيه رئاسى.
>>>
لكن ما جرى يجعلنى قلقاً على فكرة العمل المؤسسى المجرد بعيدا عن سياسات ونظريات اللقطة الملعونة التى أفسدت علينا حياتنا، وهنا أتساءل ببراءة شديدة، ماذا لو لم يتحدث فخامة الرئيس عن القوة الناعمة والدراما والإعلام وعن القلق الذى يساور سيادته على المجتمع؟ استحلفكم جميعا بالله جل فى علاه، هل كنا سنرى او نسمع عن هذه اللجان التى شكلت من الأساس؟ وهل كنا سنقرأ مقالا أو نسمع حوارا أو نرى مقابلة تلفزيونية من الخبراء وقد أنبرى كل منهم للإدلاء بدلوه عارضا نفسه كمنقذ خبير تفلت من عصر النوابغ المنسيين؟ لماذا لا نتحرك من تلقاء أنفسنا بوازع المسئولية الفادحة التى يجب ان نتحلى بها؟ لماذا لا نبادر بقراءات مجردة لواقعنا ونعمل على إصلاح المعوج منه دون ضجيج ودون صور ولقطات؟
>>>
لقد هالنى عدد اللجان التى تشكلت وعدد الاجتماعات التى عقدت، لكن ما استفزنى حقا هو هذا الكم غير المسبوق من التصريحات والصور التى نشرت حول تلك الاجتماعات! شيء مذهل حقا ان تسود اللقطة وتسيطر على العقل الجمعى لجميع اللجان فى نفس الوقت، اعلم ان استراتيجيات منمقة ستخرج من تلك اللجان، لكننى أوكد انها ستكون قديمة ومكررة ولا ابتكار فيها، إنهم يصبون الزيت القديم فى قنان جديدة بتواريخ تعبئة جديدة والسلام، لذلك أنا اكره كلمة تشكل لجنة ثم تخرج اللجنة بمخرجات وتوصيات فيتم الدعوة لعقد مؤتمر كبير حاشد لمناقشة تلك المخرجات وينتهى المؤتمر بتوصيات جديدة.
>>>
ومن جديد تشكل لجنة جديدة لدراسة التوصيات التى خرجت من المؤتمر وتنتهى اللجنة بمخرجات براقة تحتاج هى الأخرى لمؤتمر جديد حاشد ونستمر فى تلك الدائرة الخبيثة إلى ان يقضى الله آجالنا ويرث تلك الأوراق أبناؤنا فيفتحون تلك الملفات ويتساءلون لماذا إذن لم تنفذ تلك التوصيات البراقة فى عصر آبائنا؟ أعود إلى ما بدأت به وأتساءل فى الهواء الطلق بمنتهى الحرية والموضوعية والشعور الفادح بالمسئولية، ماذا فعلت لجان القضاء على الأمية ومواجهة الانفجار السكانى وماذا فعلت لجان مواجهة التطرف والارهاب بل ماذا فعلت كل اللجان التى شكلت فى كل الأزمان؟
>>>
أتصور ان تشكيل لجنة لدراسة ظاهرة ما يعنى ان هناك قصوراً ما من جهة ما استوجب اللجوء إلى مسكنات تشكيل تلك اللجان المزعومة، وفى تقديرى ان من يريد الإصلاح الحقيقى لابد ان يتجرد اولا، ونقطة البداية فى طريق التجرد هى السرية وعدم الإعلان عن أسماء تشكيلة تلك اللجان ولا يصرح لهم بالتعامل مع الاعلام ونشر صورهم بابتساماتهم البلهاء المستفزة والتى لا تتسق مع الأزمة التى هم موجودون أصلا بسببها، وحين يتم تشكيل لجان غير معلنة من قامات خبيرة أوكد ان احدا من هؤلاء المؤمنين بنظرية اللقطة لن يسعى للانضمام بل سيعتذر بشدة بحجة انه غير متخصص و لن يفيد فى هذه اللجنة!
>>>
الخلاصة اقترح ان يصدر من بيده الأمر قرارا لا استثناء فيه بأن تكون جميع اللجان المكلفة بدراسة المشكلات والأزمات والظواهر العامة والمجتمعية لجاناً سرية وغير معلنة ولا تعلن أسماء أعضائها وليس من حقهم تقديم أنفسهم للمجتمع او للإعلام او فى كروتهم الشخصية على أنهم أعضاء فى هذه اللجنة أو تلك كنوع من الفخر الفقاعى او لتحقيق مصالح شخصية ضيقة.
وهنا سنجد عزوفا كبيرا عن المشاركة وانتهاء ظاهرة التزاحم الوهمية وقطعا سيختفى عبده مشتاق من المشهد نهائيا، نظرا لأنها ستكون لجانا منزوعة الدسم خالية من الصورة واللقطة وهذا هو سر تكالبهم، وهذا بالطبع يتيح الفرصة للخبراء والمختصين الذين لا يعملون ولا يجيدون إلا فى أجواء صحية بعيدا عن غوغائيّة أصحاب اللقطات الملعونة، هنا ربما نكون سلكنا طريقاً مختلفاً قد يؤدى بنا إلى نتائج مغايرة نتمناها.
ملحوظة: ارجو ألا يتم تشكيل لجنة لدراسة ظاهرة «اللجان الملعونة».